تجمّدت الدموع في عيني آية أبو نصر وهي تتأمل ركام بيتٍ كان يومًا يعجّ بالحياة؛ خمسة طوابق من الذكريات انهارت في لحظة، وصارت حجارة صامتة على شاشة هاتفها. حدّقت طويلًا في الكلمات المنقوشة على الركام: “هنا شهداء مجزرة عائلة أبو نصر – 29 أكتوبر 2024.”
لم تعد تفرّق بين ما تراه وما تتذكّره من شدّة الألم، فالليلة ذاتها تزورها كل حين. تستيقظ على صدى الصراخ، وترى الوجوه في الضوء الخافت كأنها تناديها من بين الغبار. مئةٌ وخمسون اسمًا من دمها رحلوا دفعة واحدة، وتركوها وحيدة في زمن لم يعد يعرف كيف يُسمّي الفقد.
كيف يمكن لقلب واحد أن يحتمل غياب مئة وخمسين وجهًا من دمه؟ من بينهم خمسة من أشقائها بأولادهم. تتذكّر أصواتهم وضحكاتهم ورائحة الخبز في مطبخ الطابق الثالث، ثم تعود لتواجه الصمت… صمتًا كثيفًا، كأنه ما تبقّى من العالم بعد رحيلهم.
هنا نحكي مع الكاتبة آية نصر التي فقدت 150 شخصًا من عائلتها، لتستعيد معنا حكاية إخوتها الخمسة الذين استُشهدوا يوم المجزرة: محمد، مروان، منار، صابرين، وسحر، إلى جانب عشرين حفيدًا من العائلة الصغيرة، والعشرات من العائلة الممتدة… وجرحٌ لا يُنسى.
يوم الفاجعة الكبرى

في فجر التاسع والعشرين من أكتوبر عام 2024 حلّت الفاجعة. وصل الخبر إلى آية عبر زوجة أخيها، بينما كانت تبكي ابنة شقيقها التي استُشهدت قبل أيامٍ من المجزرة الكبرى. جلست والدتها إلى جوارها تحتضنها وتربّت على قلبها الموجوع، دون أن تدركا أن ما ينتظرهما بعد لحظات سيكون أعظم من كل ما عرفتا من حزن.
تقول آية بصوتٍ متحشرج: “فقدت من عائلتي الممتدة العشرات، ومن عائلتي الصغيرة خمسة: محمد، مروان، منار، صابرين، وسحر. كانوا عماد العائلة، ورحلوا مع أكثر من عشرين حفيدًا ملأوا البيت حياةً وضجيجًا جميلًا. لكل واحدٍ منهم حكاية حلمٍ لم تكتمل وذكريات لا تُنسى. رحلوا جميعًا في لحظة واحدة، تاركين خلفهم أجيالًا من اليُتم والحنين.”
منذ اليوم الأول للحرب على غزة، نزحت آية إلى منزل العائلة الكبير في بيت جدها وأعمامها. ومع بدء الاجتياح البري، وفي اليوم الثالث من عزاء ابنة شقيقتها، اضطُروا للنزوح مجددًا نحو غرب غزة قادمين من بيت لاهيا، تحت وابل القذائف ورصاص طائرات “الكواد كابتر”. وهكذا بدأ مشوار النزوح القاسي خارج شمال غزة الذي كانت تحبه وتخشى فراقه.
في المقبرة الجماعية

من شدّة هول المجزرة، اضطرت عائلة أبو نصر إلى دفن شهدائها في مقبرة جماعية بسوق بيت لاهيا. تقول آية: “كانت أول ليلة بعد استشهادهم الأطول في حياتي، مليئة بالبكاء والحنين والذهول. كنت أقلب صورهم على هاتفي وأسمع أصواتهم في كل زاوية من الذاكرة.”
وتكمل بمرارة: “في أواخر يناير، عند إعلان وقف إطلاق النار المؤقت وعودتنا إلى شمال غزة للمرة الأولى بدونهم، شعرت أنني أمشي بين ظلالهم. وعندما انتشلنا جثامينهم من المقبرة الجماعية في سوق مشروع بيت لاهيا وأعدنا دفنهم في مقبرة العطاطرة الرسمية، كانت أكفانهم تفوح برائحة المسك، كأنها تشهد بأنهم أحياء عند ربهم.”
اقرأ أيضًا: مصرية وفلسطيني: عن فراق الحبيب حيًا وميتًا
وأثناء مشهد نقل الجثامين، داهمتها ذكرى قديمة كطعنة مباغتة؛ تمايل جسدها تحت ثقل الحزن. رأت نفسها قبل أسابيع فقط في جلسة جمعتها بأخواتها وبنات العائلة وسط أزيز الطائرات، حين قالت إحداهن مازحة: “والله لو نزل صاروخ على العمارة لتكون أكبر مجزرة في شمال غزة.” فضحكت آية وقالت: “بعيد الشر يا أختي، إن شاء الله تنتهي الحرب على خير وسلام.” لم تكن تعلم أن المزاح في تلك الليلة كان نبوءة مبطّنة، وأن الموت الذي تحدّثن عنه كان يتهيأ حقًا ليدقّ أبوابهن.
لم يكن ذلك الفقد الأول في حياة آية، فقد سبقه رحيل والدها بعد صراعٍ مع السرطان. واليوم تعيش الحزن من جديد إلى جانب والدتها التي تلقّبها بـ”خنساء فلسطين”. تقول: “أمي أم الخمسة أقمار وأكثر من عشرين حفيدًا. تختلط دعواتها بدموعها في كل لحظة على فراق أعزّ ما تملك. تحمل حسرة وداعٍ لم يُكتب له أن يتم، فقد رحلوا دون أن تعانقهم أو تودّعهم، لكن الله ربط على قلبها بالصبر والرضا.”
“في غزة.. نجا من مات.. ومات من نجا”

كان الحزن أكبر من أن يُحتمل، فوجدت آية في الكتابة سلواها. صارت تدون النصوص على أي ورقة تقع في يدها، على دفاتر الأطفال والقصاصات الصغيرة، تكتب علّ النيران المشتعلة في داخلها تهدأ. تسعة أشهر من الكتابة قضتها قبل أن تقرر جمع نصوصها في كتاب عنونته: “في غزة.. نجا من مات، ومات من نجا.”
وعند سؤالها عن سبب اختيار هذا العنوان، صمتت لحظة ثم قالت: “العبارة التي ألهمتني كانت مكتوبة على جدار بيتنا في نهار استشهادهم: نجا من مات، ومات من نجا. العنوان وُلد من قلب المفارقة التي نعيشها؛ فالموت أحيانًا رحمة، والنجاة عبء ثقيل. أردت أن أقول إننا نعيش بين الرماد كأننا موتى مؤجلون، وأن النجاة لا تعني الحياة بالضرورة.”
اقرأ أيضًا: ميساء مقداد: الكفن الذي كان ثوب العيد لأبنائي الأربع
تمسك بكتابها وتقرأ: “نَجَا مَن ماتَ، وماتَ مَن نَجَا… كأنَّ النَّجاةَ من الحياةِ تكمُنُ في الموتِ، فالشهيدُ هو النّاجي الوحيد.” وتتابع: “استغرق إنجاز الكتاب، الذي دمجت فيه الواقعية بالرمزية، تسعة أشهر. الكتابة مغامرة ضد المستحيل، فالتحدي ليس في إيجاد الوقت، بل في الاحتفاظ بالروح وسط الركام. أحيانًا أكتب وسط القصف، وأحيانًا أتوقف لأبكي، ثم أعود لأكمل من حيث انتهت الدموع.”
يحكي الكتاب مشاهد إنسانية من حرب الإبادة الجماعية، يصف حياة الخيام، والتجويع، ونقص الأدوية، وحال آلاف النساء الناجيات من الموت، والفَقدات للأحبة.
بعد رحيلهم تغيّر مفهوم الحياة في نظر آية، وهي التي ذهبت بنفسها لتستخرج شهادات وفاة إخوتها الخمسة، بينما رأَت أبًا إلى جوارها يستخرج شهادة ميلاد لطفله. قالت في سرها: “مجنونة هذه المدينة… بلاد الحب والحياة، نخلق من اللاشيء كل شيء، ومن اللاحياة حياة.”.

