بنفسج

إخلاص العروق: عن صوت رضيعي الذي أنجاني من تحت الركام

السبت 20 ديسمبر

استهداف المنازل في غزة
استهداف المنازل في غزة

داهمها كابوسٌ بشع، رأت فيه جنودًا يعتقلون زوجها وهي ترجُوهم أن يتركوه، تبكي بحرقة لا تهدأ، وما إن فتحت عينيها حتى وجدت الركام فوقها، وكلما حاولت الصراخ امتلأ فمها بالغبار والحجارة، التفتت إلى جانبها، فكان رأس زوجها ملاصقًا لها، حركته بجهد، وحين لم يستجب أيقنت أنه فارق الحياة، حاولت سماع صوت طفلها فلم يصلها شيء، فظنت أنه هو الآخر قد رحل.

كان الليل قد انتصف، والبرد قارص ينخر عظامها، ترتعش هي وقلبها معًا، وصوت الدبابات يعلو فوق أنينها، بينما الطائرات تزأر في السماء كوحش، وهي تحت الركام، لم تجد إلا الدعاء سبيلًا، تناجي الله بخلاص يبدد هذا الكابوس الذي صار واقعًا.

في هذه القصة تأخذنا إخلاص عروق زوجة الشهيد أحمد، لتروي لنا عن ليلة استهدافهم في بداية الحرب، وماذا يحدث للمرء وهو عالق تحت الأنقاض ينتظر معجزة، عن كيف دبّت فيها الروح رفقة طفلها لينجيا من موت محقق، عن الحياة وحيدة مسؤولة عن حمل ثقيل.

كابوس صار حقيقة

استهداف المنازل في غزة.jpg

قبل بليلة من استهدافهم في 21 أكتوبر 2023، قررت إخلاص وزوجها العودة من المدرسة التي نزحا إليها لمنزلهم، ليقصفوا في يوم عودتهم إلى المنزل الواقع في حي الجلاء بمدينة غزة، في تمام الثانية ليلًا قُصف المنزل على رؤوسهم وهم نيام. كانت ترى كابوسًا قبل الاستهداف بأن الجنود يختطفون زوجها قسرًا، وتصرخ في المنام وتبكي بشدة، ففتحت عينيها لتعي أنه كان كابوسًا، وتجد نفسها بداخل كابوس واقعي أشد وطأة.

تقول بصوت متحشرج: "استيقظت لأجدني تحت الركام، وزوجي وطفلي بجانبي بلا حراك، أيقنت أنهما استشهدا، لأسمع بكاء طفلي بعد دقائق، لكن لم أجد ما ينقذني في البداية حتى مرّ شباب من فوق الركام فسمعوا صوت الصغير، فأنقذونا وبقينا لدى عائلة لا نعرفها، وبعد أسبوع علمت عائلتي أننا وطفلي على قيد الحياة، لانقطاع الاتصالات آنذاك".

وهي تحت الأنقاض لم تتوقع أن تنجو وصغيرها آدم البالغ من العمر 5 أشهر أحد، لم تحسب عدد ساعات بقائها تواجه الموت عن قرب، كانت تنطق الشهادتين وتحرك يديها لتكتشف أن السقف الإسمنتي ملاصقًا لهما، فقالت لا مخرج لي من هنا سأموت اختناقًا وبالفعل بدأ جسدها يفقد وعيه ببطيء، قرأت آيات من القرآن في لحظاتها الأخيرة، حتى أُنقذت وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، لتنجو وآدم.

أم وحيدة

الفقد في غزة.jpg

رحل زوجها وبقيت لوحدها تربي صغيرها آدم الذي لم يعرف والده، كان يقول لها في ليلتهم الأخيرة: "يارب تقبلني شهيدًا لو أذنت لي بالرحيل، خذني للجنة بلا حساب"، ليرحل بعد ساعات من أمنيته. تضيف وهي تسمح دمعة هاربة: "طلب مني أن أصنع حلوى البسبوسة، وطلب مني أن أسامحه، وأوصاني على ابننا آدم الذي جاءنا بعد 3 أعوام من الزواج ومحاولات عديدة للإنجاب وإجهاض لمرتين".

كان أحمد زوجًا مثاليًا وصفته إخلاص ب "الحنون التقي"، مبادرًا يساعد في الأعمال المنزلية ويهتم بها وبآدم، قبل زواجه كان مغتربًا في تركيا لكنه عاد ليلتقي بإخلاص ويتزوجا، تردف: "ما كان يحب يشوفني زعلانة وبس أزعل يقلي ما بتهوني عليّ".


اقرأ أيضًا: فاطمة البلتاجي: أم المؤنسات الشهيدات الصغار


كبر آدم في الغياب ومع كل شهر يكبر به تفرح إخلاص، لكنها تخاف الأسئلة: فماذا سترد حين يسأل عن والده أحمد، كان يقول لوالدها: "بابا". وحين نطقها للمرة الأولى بكت، فشرحت له وأرته والده عبر الصور، ليسأل بنبرة طفولية: "طيب وينه بابا". صمتت إخلاص وأخذته للمقبرة لتحكي له أن والده شهيدًا، وهو ابن الشهيد، لكنه لم يستوعب.

كانت أمنية أحمد أن يسمع كلمة بابا لكنه رحل قبل أن يسمعها رفقة والدته وأخوته وزوجاتهم وأولادهم، مسحوا جميعهم من السجل المدني، عاشت إخلاص بعد رحيلهم معًا صدمة شديدة، تختم حديثها: "لقد كان وجع رحيل أحمد وعائلته قاسيًا عليّ، لم أتخطَ الفراق أبدًا، كل ما يصبرني على الحياة وجه آدم، أتمناه طفلًا يشبه والده بكل تفاصيله".