في قطاعٍ لم يعد يشبه نفسه، حيث تنام المدن على أنقاضها، وتصحو النساء على وجوه لا أحد فيها، تبدأ قصص النجاة المؤلمة. نساء خرجن من تحت الركام، ووقفن على أطلال بيوتهن وجثث أحبّائهن، لا يحملن الحقائب بل الألم، لا يملكن خارطة للحياة، بل ذكرى لما كانت عليه.
في حربٍ لا تمنح أحدًا فرصة الوداع، لا تنجو النساء كما يظنّ العالم. يخرجن من الموت بأجساد ناقصة، وقلوب مثقوبة، يحملن أسماء من رحلوا في صدورهن، وملامحهم في الذاكرة، وخوفهم الأخير في نومهن، لا وقت للبكاء في جنازات جماعية، ولا صور تُعلّق على الجدران، ما تبقّى لهنّ مجرد خيمٍ من قماش، وسماء مفتوحة على الغياب.
شاهد أول على المجزرة
في خيمة على أطراف المواصي، فقدت آية حسونة (30 عامًا)، زوجها عبد الله، وطفليها حمزة (4 أعوام) ورغد (عامان)، في قصف مفاجئ استهدف خيمتهم أثناء إعدادها للطعام، تقول آية: "كنت أعدّ الغداء، وكانوا يلعبون أمامي، وفجأة دوى الانفجار، ووجدت نفسي وسط دمائهم".
أُصيبت آية إصابة خطيرة ومكثت في المستشفى قرابة الشهر، لكن عودتها إلى الحياة لم تبدأ من الشفاء الجسدي، بل من قرارها ألا تستسلم، تقول: "استعنتُ بالقرآن، وبدأت بقراءة كتب في الصبر والدين، ثم قررت استكمال رسالة الماجستير التي كنت أعمل عليها، ناقشتها لاحقًا وأهديتها لأرواحهم".
اليوم، عادت آية إلى عملها في وزارة الصحة، وتحاول أن تكون سندًا لغيرها من النساء الناجيات: "كل لحظة تمرّ ثقيلة، لكنني لا أريد أن أكون صورة للانكسار. أُبقي ذكراهم حيّة وأمضي".
الكتابة بدل البيت
أمل أبو ظريفة (41 عامًا)، كانت معلّمة لغة عربية، وفقدت بيتها وعائلتها وأوراقها في قصفٍ على خزاعة. تقول: "خرجتُ من تحت الركام بدون حقيبة، بدون صور، بدون وثائق، لم يتبقّ لي سوى ذاكرتي، بدأت بكتابة يومياتها في دفتر صغير وجدته في أحد مراكز الإيواء. وتابعت: "أكتب كل ما أتذكره عن زوجي وأطفالي، ليس للناس، بل لي، كي لا أنساهم، وكي لا أضيع معهم".
اليوم، تُدرّس أمل مجموعة صغيرة من الأطفال النازحين في خيمة مجاورة، مستخدمة أوراقًا مطبوعة يدويًا، تقول أمل: "أحتاج اللغة لأعيش، كما كنت أحتاج البيت، التعليم أعاد لي شيئًا من نفسي".
تنور من رماد
سهى النجار (38 عامًا)، فقدت سبعة من أفراد أسرتها، بينهم زوجها وأطفالها الثلاثة، لم تملك حتى ثمن الخبز في أول أيام نزوحها، تقول وهي تمسح ما علق على وجهها من رماد: "أعددت تنّورًا بدائيًا من حجارة مكسورة، وبدأت أخبز. لم يكن مشروعًا، بل محاولة للنجاة".
في السوق الشعبي في مخيم دير البلح، بدأت سهى ببيع الخبز صباحًا، ثم أضافت له الفطائر، تقول: "كل ما أفعله بيدَيّ، أفعله عنهم، رائحتهم كانت في الخبز الذي أخبزه، ومع الوقت صار العجن طريقتي في مقاومة العجز". سهى لا ترى في نفسها امرأة صلبة بقدر ما ترى أنها "ناجية تحاول أن تعيش بما تبقّى".
تواسي الغياب بالآيات
ريم الطويل، 36 عامًا، فقدت عائلتها كاملة في قصف أثناء النزوح داخل مدينة غزة. بعد اشتداد القصف على بيتهم في بيت حانون، لجأت مع زوجها سامر وأطفالها: يوسف (9 أعوام)، لين (6 أعوام)، وسليم (3 أعوام) إلى منزل شقيق زوجها في حي الزيتون. تقول: "كنت أعدّ العدس وقت الظهر، وفجأة سقط الصاروخ، فسقط البيت فوق رؤوسنا".
استشهد زوجها وأطفالها الثلاثة، إضافة إلى ثلاثة من أقارب زوجها، وأُصيبت ريم بجروح، وخرجت من المستشفى بلا مأوى، اليوم، تعيش في خيمة قرب مشفى الشفاء، وتُعلّم الأطفال النازحين سورًا قصيرة من القرآن، كنوع من المواساة وتثبيت الروح. تقول: "أحاول أن أزرع فيهم ما افتقدته، بعض السكينة، وبعض ما كان أولادي يتعلّمونه مني".
اقرأ أيضًا: أم الشهيد مجد سلامة: هل عادت الحرب لتأخذ مني مجد؟
رغم هذه المحاولات الفردية للتماسك، تعاني الناجيات من غياب دعم نفسي فعلي. تقول الأخصائية النفسية دعاء حمودة: "النساء اللواتي فقدن عائلاتهن بالكامل يواجهن صدمات مركّبة: فقد، ونجاة، وذنب، وعزلة. للأسف، معظم البرامج تركّز على الأرامل المعيلات أو الأطفال، وتتجاهل هؤلاء الناجيات". وتضيف: "هؤلاء النساء لا يحتجن إلى أنشطة ترفيهية، بل إلى احتواء طويل الأمد، وبرامج تعيد إليهن معنى الحياة.
رغم الخراب، هناك عناد نسائي لا يموت في غزة. نساء شقّهن الوجع، لكنهن رفضن السقوط. يعشن على الأمل، ولو كان هشًا، ويبنين حياة جديدة بأدوات من رماد، ويبحثن عن فتحة ضوء في جدار الليل. ربما لا تلتئم جراحهن، وربما لن ينسين، لكنهن اخترن البقاء، لا لأن الحياة أحنّ عليهن، بل لأن الموت كان مزدحمًا، والحياة – رغم كل شيء – ما زالت تفتح نافذة صغيرة لأمل لا يموت.