بنفسج

حين يحجب السجن الجبل: ذاكرة أسيرة بين حيفا والدامون

الجمعة 28 نوفمبر

الأسيرات في سجن الدامون
الأسيرات في سجن الدامون

مدينة حيفا، الفلسطينية الجميلة التي تستلقي وتغفو على شاطئ المتوسط منذ زمن بعيد، سكنها العرب الكنعانيون، وسلبها منّا بنو صهيون وغيرّوا هويتها واستوطنوها وادعوا ملكيتها. لطالما ارتبط اسمها في نفسي بجبل الكرمل، تلك السلسة الجبلية المرتفعة المحاذية للبحر المتوسط في شمال فلسطين التي تعج بالغابات الطبيعية والمناطق الصخرية والكهوف والمُغر، ومتنوعة حيويًا وبشكل نادر من نباتات وحيوانات برية.

وبقدر الجمال الذي يميز حيفا وجبل الكرمل، وبقدر ما أحببتها، وكانت المكان المفضل في نفسي لأزوره كلما أُتيحت لي فرصة نادرة، في ظل تعقيدات الاحتلال وتقييداته لنا نحن الفلسطينيين، ويحول دون بلوغنا لكثير من مناطق أرضنا المحتلة، بالقدر نفسه أصبح في داخلي شعور بالغربة والخوف منها.

خوف دفعني كثيرًا لسؤال نفسي: أليست مدينة فلسطينية، أليست جزءًا من وطني الحبيب، فكيف أشعر تجاهها بالغربة وعدم الاطمئنان؟ بقيت الإجابة تستعصي عليَّ، كم تمنيت خلال وجودي خلف أسوار سجن الدامون، وكنت أسمع أصوات أمواج البحر تضرب حواف الشاطئ في الأيام التي تشتد رياحها، وتبلغ أنفاسي رائحة رطوبة الغابات.

 وأرى أحيانًا الطيور المهاجرة تعبر السماء التي يحجبها شبك السجن، تمنيت كثيرًا لو أني أستطيع الخروج من السجن ولو للحظات بدون عصبة على عيني لعلي أرى الدنيا من قمة جبل الكرمل، لعلي أرى شجرة خضراء أو أرض معشبة أو حتى مجرد نحلة أو فراشة. كنت أرى جبل الكرمل شامخًا من بعيد خلال مروري إلى شمال فلسطين أثناء رحلات الاستجمام النادرة التي تتاح لي، دون أن أتمكن من الاقتراب منه. والآن، هأنذا أُمضي سنة كاملة على أعلى قمته دون أن أتمكن من رؤية شيء خارج الأسوار المقيتة.

بقيت هذه الأمنيات والغربة حتى غادرت حيفا، ورحلت عنها إلى سجن عوفر في رام الله، ليهاجمني الشعور بالغربة ذاته وبشراسة أكبر، لأستوعب حقيقة مفادها، ليست المشكلة في حيفا أو رام الله، بل في السجن وأسواره البغيضة التي تسلب حرية الإنسان وتمتهن كرامته وتجعل منه مجرد شيء قابل للكبت والقهر وممارسة العنف ضده وإذلاله بكل السبل.


اقرأ أيضًا: نساء من رماد الذاكرة: حين تنجو الأجساد ولا ينجو القلب


في الصباح، نقلوني إلى بوابة سجن هاشارون حيث تنتظر بوسطة من الحجم الكبير تشبه الباص في حجمها ولكنها عبارة عن سجن مصغر. زنازين بحجم الكرسي المنفرد، وأبواب معنية سميكة وأقفال من الخارج، بالمختصر، زنزانة عزل تحملها مركبة كبيرة حتى إن المركبة التي ينقلون فيها الأبقار والأغنام أكبر منها حيزًا وأكثر إضاءة، حتى أن الأنعام داخلها تستطيع أن ترى ما يجري حولها، أما نحن داخل البوسطة، فمعزولون عن العالم، حتى خيوط النهار، يُحرَّم عليها أن تتسلل لداخلها، لتمعن في تضليلنا وإرباك ثقتنا بأنفسنا.

كان المقعد معدنيًا صلبًا، شديد البرودة، والزنزانة المتحركة معتمة جدًا، ورائحة المعدن الصَّدِئ تملأ المكان! سمعت أصوات قيود معدنية ترتطم بالأرض، وأصوات آمرة تتحدث بغلظة بالعبرية، أدركت أنهم ينقلون أسرى آخرين مثلي، شعرت ببعض الطمأنينة، فلست وحدي في هذه المكان الموحش. لا أدري كم مكثت في المكان قبل أن تتحرك البوسطة، ولكن ما أعلمه يقينًا أنني كنت أُعاني بشدة، ظهري يؤلمني بشدة، مفاصلي تستعصي على التحريك، البرد يقضم أطرافي، الجوع يلتهم أحشائي من الداخل ويقذف برودة شديدة في جسدي لم أعد أُطيق المزيد منها.

لا أدري كم مكثت في المكان قبل أن تتحرك البوسطة، ولكن ما أعلمه يقينًا أنني كنت أُعاني بشدة، ظهري يؤلمني بشدة، مفاصلي تستعصي على التحريك، البرد يقضم أطرافي، الجوع يلتهم أحشائي من الداخل ويقذف برودة شديدة في جسدي لم أعد أُطيق المزيد منها.

تحركت البوسطة بعنف منذ اللحظة الأولى، التفافات عنيفة تجعلني أرتطم في جدار الزنزانة، مرة من اليمين، ومرة من الشمال، وأخرى من الخلف أو الأمام، وكل ما أحاول فعله طوال الوقت، هو أن أتشبث بالمقعد المعدني بقوة لعلي أتفادى الارتطام الذي أنهكني وضاعف آلام جسدي. توقفت البوسطة مرات عدة أثناء الطريق، كنت أسمعهم يتحدثون في الخارج بالعبرية مع أُناس آخرين، وثلاث مرات نقلوني من زنزانتي إلى زنازين أخرى في بوسطات أُخر، تختلف في الحجم والشكل، وعند كل تنقل، كنت أنتظر وقتًا طويلًا عجزت عن تقديره قبل أن نعود للسير.

في المرة الثالثة، أنزلوني من البوسطة في منطقة واسعة تحيط بها الأسلاك المعدنية الشائكة من كل الاتجاهات، كانت السماء تذرف دمعها بصمت وخشوع، عندما وقفت على الإسفلت، ملأت رئتي بهواء بارد نقي، حمل عبق الأرض ورطوبتها، ما أجملك يا فلسطين. وما أحب هواءك على قلبي، أجلت نظري في المكان، فلم أستطع أن أُصدق ما تراه عيني. خشيت أن يكون مجرد حلم خادع، أشغلت حواسي، فتجاوبت معي، حاولت تحريك يدي داخل القيد؛ فآلمتني أدركت أنني أعيش الحقيقة. أرخيت لنفسي العنان لأسرق هذه اللحظات التي لا أدري متى يمكنها أن تتكرر، إن كان هناك فرصة أخرى حقًا.

أصوات بساطيرهم، صوت محرك البوسطة. ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى تنبه أحد السجانين إلى الوقفة الحالمة التي أغرق فيها، فصرخ بي بجنون، وسحبني من قيدي، وأدخلني إلى بوسطة أخرى تتوقف في المكان وأحكم القفل وراءه، وبعد بعض الوقت، عاد إلي ونقلني إلى البوسطة التي ستحملني إلى المجهول.

كانت أصوات النحشون البغيضة تربك صفاء هذه اللحظات، نداءاتهم المرتفعة، أصوات بساطيرهم، صوت محرك البوسطة. ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى تنبه أحد السجانين إلى الوقفة الحالمة التي أغرق فيها، فصرخ بي بجنون، وسحبني من قيدي، وأدخلني إلى بوسطة أخرى تتوقف في المكان وأحكم القفل وراءه، وبعد بعض الوقت، عاد إلي ونقلني إلى البوسطة التي ستحملني إلى المجهول.

بعد عدة أشهر من وجودي في الدامون، علمت أن ذلك المكان كان سجن كيشون، وهو مركز تحقيق وعزل للأسرى الفلسطينيين، وأن ما كنت أراه أمامي هو جبل الكرمل الفلسطيني ببهائه ونقائه، ظللت أجتر هذه اللحظات وأُعيد تكرارها في ذاكرتي مرات ومرات وأعيش المشاعر المسروقة لعلها تعينني على الثبات في عتمة السجن والقيد.


اقرأ أيضًا: زوجات الأسرى: على بوابة الغياب.. تقف امرأة


كانت خيوط شمس مسائية ضعيفة تتسلل من بين الغيوم الملبدة في الجهة الغربية من السماء أدركت أن النهار سرعان ما سينقضي لأُنهي يومًا جديدًا في الأسر، إذ وقفت البوسطة أمام بوابة زرقاء ضخمة، على جوانبها أبراج مراقبة وأسلاك شائكة.. إذن هذا سجن جديد.. فهل هو نهاية رحلة التنقل، أم إحدى محطاتها؟ لست متأكدة.. لا أعلم!

توقفت البوسطة وأطفأ ساؤقها المحرك.. بعد دقائق، انفتح باب الزنزانة، وسحبني سجان من قيود يدي، بصعوبة وألم وقفت. لم يمهلني بغلظة أنزلني إلى الخارج، لم أكن أعلم أن هذه هي المحطة الأخيرة التي سأمضي خلف أسوارها عام كامل في الضنك والغربة والإذلال، لم أعلم أنني الآن أمام بوابة سجن الدامون، سجن الأسيرات الذي كنت أسمع عنه كثيرًا، ولم أتوقع أن أُصبح إحدى الأسيرات اللاتي تُحتجز فيه. ولم أتوقع أن أعاين بنفسي أصنافًا شتى من الألم والمعاناة والعذاب. وداعًا للحرية، وليس داعًا لك أيها العالم الذي اختار الصمت والخرس أمام ما نعانيه من محتل ظالم معتد.