في أرضٍ تتقاطع فيها الحروب مع الذاكرة، تصبح الكاميرا والقلم أدوات وجودية، تتجاوز وظيفتها الإعلامية لتغدو جسورًا بين الألم والحقيقة. النساء الفلسطينيات اللواتي يوثّقن الحرب في غزة لا يقدمن مجرد سردٍ للأحداث، بل يصوغن وجودًا مضادًا للمحو؛ فالتوثيق هنا فعل مقاومة، وممارسة للحرية الفردية وسط قسوة التاريخ والجغرافيا. في كل صورة، في كل كلمة، تنسج المرأة خيطًا يربطها بالمجتمع، وتعيد تعريف البطولة في زمنٍ ينهار فيه كل شيء، عدا الإرادة في أن يُرى الواقع كما هو، وأن تُحفَظ الذاكرة كما ينبغي أن تبقى.
التوثيق كفعل مقاومة

منذ بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أدّت المرأة الفلسطينية دورًا محوريًا في نقل الرواية من الهامش إلى الفعل، سواء عبر الكلمة أو الصورة أو الذاكرة الشفوية. ومع تصاعد العنف في حرب غزة الأخيرة، تحوّل التوثيق النسوي إلى أحد أبرز أشكال المقاومة المدنية؛ إذ باتت الكاميرا امتدادًا للجسد، والصوت وسيلة لحماية الوجود من المحو.
ووفق نقابة الصحفيين الفلسطينيين، تشكّل النساء نحو 35% من الصحفيين الميدانيين في غزة خلال الحرب الأخيرة، وغطّين أكثر من 50% من الأحداث الإنسانية والدمار المدني عبر الكتابة والتصوير الفوتوغرافي والفيديو.
تقول الصحفية الميدانية عُلا كلخ: "ما دفعني إلى التوثيق لم يكن مجرد شغف بالمهنة، بل شعور عميق بالواجب والمسؤولية تجاه الحقيقة وتجاه شعبي المظلوم. في لحظات القصف والخوف كنت أدرك أن كل صورة أو شهادة قد تكون آخر ما يبقى من صوت اختنق تحت الركام". وتضيف: "لم أكن أوثق فقط، بل كنت أقاوم بالكلمة والصورة، لأقول إن ما يحدث هنا ليس أرقامًا، بل أرواحًا وأحلامًا تُسحق".
واجهت عُلا صعوبات قاسية، من القصف والنزوح إلى انقطاع الإنترنت والكهرباء، لكن إيمانها بأن الصورة قد توقظ ضميرًا منحها القوة للاستمرار. وتقول: "حين تروي امرأة فلسطينية الحرب بقلمها، تتحول الكلمة إلى مقاومة، والكتابة إلى وسيلة لإبقاء الذاكرة حيّة في وجه النسيان، لأن الحقيقة آخر ما نملكه في زمن يقتل فيه الصمت أكثر من القنابل".
بين الواجب والخطر

في الحروب السابقة على غزة، كان حضور النساء في الخطوط الميدانية أقل وضوحًا، لكن معركة طوفان الأقصى كسرت هذا النمط؛ إذ وجدت العشرات من الصحفيات والناشطات أنفسهن في الميدان بلا حماية تُذكر، يوثّقن وسط الانفجارات وانقطاع الاتصالات. هذه التجربة كشفت الوجه الأكثر قسوة للتوثيق: أن يتحول العمل المهني إلى نزالٍ يومي بين الحياة والموت.
تقول المصوّرة الميدانية إسراء العرعير (33 عامًا): "بدأت التوثيق ليس كاختيار مهني، بل كضرورة للبقاء. في كل لقطة ألتقطها أشعر بالخوف، لكن رغبتي في أن يرى العالم الحقيقة تفوق أي قلق". وتضيف: "التصوير بالنسبة لي رسالة وجود أقاوم بها الصمت والمحو، وأؤكد أننا ما زلنا هنا، نعيش ونشهد ونروي. أحيانًا أصوّر وأنا أهرب من القصف أو من خيمة مؤقتة بلا كهرباء، ومع كل صورة أشعر أنني أحفظ جزءًا من هوية مجتمعنا المهددة". وتشير إلى أن العمل في الميدان ترك ندوبًا نفسية وجسدية، لكنه منحها شعورًا عميقًا بالمسؤولية تجاه من فقدوا أصواتهم.
ووفق لجنة حرّيات نقابة الصحفيين الفلسطينيين، قُتلت 51 صحفية من قطاع غزة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023 وحتى مطلع سبتمبر 2025. تكشف تجربة إسراء عن البعد النفسي والجسدي للتوثيق تحت القصف، حيث يتحول الخطر إلى جزء من الإحساس بالمعنى، ويغدو الاستمرار في العمل طقسًا للثبات وإعلانًا عن الوجود، ودليلًا على صمود المرأة الفلسطينية في الخطوط الأمامية.
الأثر النفسي والاجتماعي

التوثيق لا يقتصر على نقل الحدث، بل يترك أثرًا عميقًا على الحالة النفسية والاجتماعية للمرأة الموثقة. مع تصاعد العنف، أصبح العمل الإعلامي النسوي تجربة مزدوجة: مواجهة الخطر المباشر وتحمل مسؤولية نقل الحقيقة للعالم. وهكذا تحوّل التوثيق إلى مساحة للصمود النفسي والاجتماعي، وتحويل الألم الفردي إلى ذاكرة جماعية. أظهرت دراسة Springer (2025) أن 82% من النساء الصحفيات والكاتبات اللواتي يوثّقن الحرب يعتبرن الكتابة وسيلة للتنفيس النفسي وحفظ الذاكرة الجماعية.
تقول الكاتبة والمدوّنة وعد أبو زاهر (33 عامًا): "لم يكن التوثيق قرارًا، بل فعل نجاة. بدأت أكتب لأنني شعرت أن علينا نحن الأحياء أن نحمل الرواية. كل شيء حولي كان يدعوني للكتابة؛ وجوه النساء والأطفال تحكي أكثر مما تحتمله الصور". وتضيف: "كنت أدوّن من تحت القصف، أحيانًا من خيمة، على بطارية هاتف توشك أن تنفد. التوثيق في الحرب يعني أن تكوني شاهدة ومهددة في آن واحد، أن تكتبي ويدك ترتجف".
تصف وعد الكتابة بأنها امتداد للتنفس، لكنها تركت في داخلها ندوبًا، فكل قصة كتبتها كانت وجهًا واسمًا لا يُنسى. وتجربتها تبيّن كيف تحوّل التوثيق من أداة نقل إلى مقاومة رمزية، حيث تصبح الكتابة امتدادًا للذات في مواجهة محاولات محو الهوية الفلسطينية.
من التوثيق الفردي إلى السرد الجماعي

مع تصاعد الحرب، تحوّل التوثيق الفردي إلى شبكة جماعية للرواية الفلسطينية. النساء الفلسطينيات، من الصحفيات إلى الناشطات الرقميات، أصبحن يشكّلن صوتًا موحدًا ينقل الواقع للعالم متحديات محاولات التعتيم الإعلامي. هذا السرد الجماعي يعزز الذاكرة الجمعية ويضمن أن تبقى تجربة الحرب حية في الوعي المحلي والدولي. تشير بيانات مركز مدى (2024) إلى أن أكثر من 50% من المحتوى الرقمي الموثّق خلال الحرب تم إنتاجه بتعاون بين صحفيات وناشطات، ما يعكس تحوّل التوثيق الفردي إلى سرد جماعي متكامل.
تقول المدوّنة الرقمية روان الجبالي (22 عامًا): "لم أخطط يومًا لأن أكون موثقة للحرب، كل ما أردته هو أن يفهم العالم كيف يبدو الشعور حين ينهار كل ما حولك. بدأت أكتب بالإنجليزية لأصل إلى من لا يسمعنا، لأجعلهم يشعرون بما نعيشه لا أن يقرؤوه فقط في العناوين الباردة". وتضيف: "كنت أكتب أحيانًا والبيت يهتز، أو ينقطع الإنترنت فجأة فأشعر كأن صوت غزة انقطع معي، لكن الكتابة أصبحت طريقتي للبقاء، لتنظيم الفوضى وتحويل الخوف إلى معنى".
اقرأ أيضًا: في الواجهة من جديد: المرأة الفلسطينية وسؤال الدور النضالي
وتوضح روان أن "كل قصة أرويها تحمل جزءًا من ألمي، لكنها تمنحني أيضًا قوة. أن تروي امرأة فلسطينية الحرب بقلمها يعني أن تستعيد صوتها وكرامتها ووجودها في عالم يحاول أن يسكتنا جميعًا". هكذا يتحول التوثيق الفردي إلى رواية جماعية حية؛ فتكامل الأصوات الفردية يخلق ذاكرة رقمية متسقة، ويحوّل التوثيق إلى مشروع وطني يحفظ الهوية، يمنح التمكين داخليًا، وينقل الحقيقة خارجيًا بلا تزوير، ليصبح التوثيق أداة مزدوجة: حفظ للذاكرة وتمكين للفعل النسوي.
التوثيق النسوي في غزة ليس مجرد عمل إعلامي، بل فعل وجودي ومقاومة فلسفية. من خلال الكاميرا والقلم، تتجاوز النساء دور الشاهدة ليصبحن صانعات للذاكرة وناقلات للحقيقة. يتحول الألم الفردي إلى رواية جماعية تحفظ الهوية وتعزز حضور المرأة الفلسطينية محليًا ودوليًا. في زمنٍ تتبدد فيه المعايير الإنسانية، يصبح التوثيق النسوي معقلًا للعدالة الرمزية، وحصنًا للذاكرة أمام محاولات الطمس والنسيان.
المراجع:
نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إحصاءات العاملين في الإعلام في غزة 2021–2022، pcbs.gov.ps
مركز مدى للتنمية وحرية الإعلام، تقرير عن استهداف الصحفيات الفلسطينيات 2024، madacenter.org
IFJ – الاتحاد الدولي للصحفيين، الإعلاميون الفلسطينيون بين الحرب والموت، ifj.org
Springer, 2025. Surviving trauma: Gazan women’s mental health during genocide, link.springer.com
DergiPark, 2024. Behind the Rubble: Psychological trauma of wars and human rights abuses on women and children in Gaza, dergipark.org.tr
Wikipedia, Bisan Odwa, en.wikipedia.org

