بنفسج

طوفان الأقصى: كيف ساهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعي؟

الأحد 07 يناير

يعد مفهوم الوعي أحد أهم المفاهيم المركزية في تراث الفكر الإنساني، وهو أساس كل معرفة، ويرتكز على ثلاث مكونات: المكون المعرفي، وهو المعرفة التي يحصل عليها المرء من مناهل المعارف المختلفة، ثم المكون الموقفي، وهو الموقف الذي يتخذه من هذه المعرفة سواء بالإيجاب أو السلب، وأخيرًا الموقف السلوكي، وهو السلوك الذي يتحدد بناء على الموقف المتخذ من المعرفة المكتسبة، وهذه المكونات بمجموعها تشكل بنية الوعي لدى الأفراد في المجتمعات عمومًا.

قبّل السابع من أكتوبر: تزييف مطبق للوعي المجتمعي 

التطبيع العربي الإسرائيلي.jpg
كاريكتور حول التطبيع العربي الإسرائيلي الذي بلغ ذروته قبل العبور المُقدّس في السابع من أكتوبر 2023 

لعبت المؤسسات الإعلامية وأجهزة التنشئة الاجتماعية المختلفة دورًا محوريًا في تشكيل وعي المجتمعات بالقضية الفلسطينية، على أن دورها التقليدي تراجع كثيرًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبح كل إنسان حول العالم يمتلك وسيلته الخاصة التي يستطيع من خلالها الحصول على ما يشاء من معارف تشكل المكون الأول لعملية الوعي، فإذا كانت زائفة فإن ما يليها من مكونات ( الموقف والسلوك) تصبح غير صحيحة، وبالتالي فالناتج سيكون تزييفًا للوعي لا تشكيلًا له.

يمكننا قراءة حجم التزييف في وعي العقل الجمعي العالمي والعربي على وجه الخصوص الذي مارسه الإعلام الصهيوني والمتصهين بأذرعه ولغاته المختلفة ضمن استراتيجيته الكبرى في المنطقة العربية تحديدًا والمتمثلة بتغيير الهندسة الاجتماعية للمجتمعات العربية خلال العقود الماضية، والتي تستند إلى المصالحة مع المحتل والتطبيع معه على قاعدة تسيّد الكيان الصهيوني وتفوقه عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا وعلميًا على كل البلدان العربية مجتمعة.

 تمكّن الاحتلال الإسرائيلي من خلال ذلك من كسب العديد من المعارك دون قتال من خلال عمليات غسيل لأدمغة المجتمعات، بحيث باتت الرواية والرؤية الصهيونية مقبولة لدى فئات من النخب، ناهيك عن تشربها لدى شريحة ليست باليسيرة من أفراد هذه المجتمعات، وترسخت قناعات لديها تسلم بالواقع وارتفعت أصوات قامعة فصامية حافلة بالتوتر مراقبة للنيات، حتى بات الناس يترددون في الإعلان عن آراءهم خشية وقوعهم في قبضة من يترصدهم، وتوارت معها الموضوعية لصالح تيار الغوغائية والضجيج، وصار أي حديث عن مركزية فلسطين كأنه استخفاف بآلام شعوب المنطقة، وتسارعت في الأثناء موجة التطبيع مع الكيان في المنطقة كادت تتوج بتطبيع السعودية أكبر دول الشرق الأوسط.

السابع من أكتوبر: النضال ضد تسيّد الرجل الأبيض

طوفان الأقصى السابع من أكتوبر.jpg
شاب فلسطيني يرفع العلم الفلسطيني فوق مجنزرة إسرائيلية على حدود غزة في السابع من أكتوبر

شكّل السابع من أكتوبر عام 2023 والعملية النوعية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في قلب فلسطين المحتلة، انقلابًا في الوعي والإدراك فيما يخص القضية الفلسطينية على المستويين الصهيوني الغربي والعربي على حد سواء، فمن جهة كادت المخططات الصهيوأمريكية في هندسة المنطقة اجتماعيًا، تؤتي أكلها من خلال ترسيخ الرؤية الصهيونية في المنطقة جاءت العملية لتقلب الطاولة على مخططاتهم وموازينهم.

 وقلبت معها توازنهم العقلي والنفسي، فكانت الحالة الهستيرية التي عبر عنها المحتل من خلال عمليات الابادة والتطهير العرقي، وكان الإرباك والتخبط سيد الموقف وعلى كل المستويات العسكرية والسياسية توجت بأداء إعلامي هزيل لم يشهده الكيان من قبل.رافق هذا الانقلاب - في الوعي والإدراك-كسر هيبة الردع للمحتل وكسر معه استعلاءه في المنطقة، والتي حاول لعقود فرضها وترسيخها وإظهار تفوقه العسكري والأمني والعلمي والاقتصادي والتكنولوجي على كل البلاد العربية مجتمعة.

 كان السابع من أكتوبر، وما تبعه من عمليات تطهير عرقي، تذكيرًا لهذه الشعوب أن المعركة واحدة وأنهم شركاء في النضال ضد الهيمنة الأمريكية والمركزية الغربية المتجذرة في العقل الغربي والمتمثلة بتسيد الأبيض -وما الصهاينة إلا الامتداد الثقافي لهم - والتي تمنعهم من النظر سواسية إلى الضحية "الإسرائيلي" الأبيض والفلسطيني غير الابيض.

في الأثناء  تكشف النفاق الدولي وزيف المنظمات الحقوقية والأممية على حد سواء، وازدواجية المعايير التي ذهبت حد محاولة إعادة صياغة قواعد الحرب في القانون الدولي بما يخدم الصهاينة وتزيّيف حق الدفاع عن النفس، وصار حقًا للمحتَل لا المحتل، وتحطمت شعارات الحريات والمساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان وشهد العالم ردة لعصور التوحش وبتنا شهداء على مقتلة حقيقية لكل ما تعارف عليه العالم من قيم وأعراف ومواثيق وقوانين ومبادئ استنفرت أحرار العالم للخروج للشوارع والتظاهر، ليس حبًا لغزة وإنما نصرة لقيم الحرية والعدالة وحفاظاً على قداسة المنجزات الانسانية التي ناضل الإنسان، وفي مختلف جغرافيات العالم كثيرًا لتحقيقها.

 وتذكيرًا لهذه الشعوب أن المعركة واحدة وأنهم شركاء في النضال ضد الهيمنة الأمريكية والمركزية الغربية المتجذرة في العقل الغربي والمتمثلة بتسيد الأبيض -وما الصهاينة إلا الامتداد الثقافي لهم - والتي تمنعهم من النظر سواسية إلى الضحية "الإسرائيلي" الأبيض والفلسطيني غير الابيض.

إن كثافة الإجرام الصهيوني الأمريكي الغربي المتواصل والمتسارع والمباشر على كل ما هو حي في غزة، وأمام عجز تام للمنظومة الدولية عن إيقاف سلسلة حروب الابادة والتطهير العرقي الحاصلة تُظهر أننا نشهد، ربما نهاية سلسلة طويلة من جرائم الرأسمالية الليبرالية العالمية المتوحشة على الإنسانية المتبقية، فإما أن تُثبَّت أركان النظام المتوحش، أو نشهد ميلادًا جديدًا للإنسانية تكون فلسطين مركزه.

طوفان الأقصى: إعادة تشكيل الوعي الجمعي 

يمكننا القول إن من أعظم تجليات طوفان الأقصى أنه أحدث كيا كبيرًا في الوعي الجمعي -ليس فقط للشعوب العربية والإسلامية، بل وشعوب العالم -تجاه القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر ونضال ضد احتلال صهيوني إحلالي استعماري استيطاني.
 
وأضحت المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حماس، قبلة لحركات التحرر العالمية التي تلتف حولها الجماهير الحرة في العالم معظمة لقيم العدالة والحرية. 

ختامًا؛ يمكننا القول إن من أعظم تجليات طوفان الأقصى أنه أحدث كيا كبيرًا في الوعي الجمعي -ليس فقط للشعوب العربية والإسلامية، بل وشعوب العالم -تجاه القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر ونضال ضد احتلال صهيوني إحلالي استعماري استيطاني.

 وأعاد البوصلة الى ما ينبغي أن تكون عليه المواجهة الحقيقية بين شعب محتَّل مقاوم ومستعمر فاشي عنصري، فكَّسر بذلك الرؤية والمخططات الصهيونية في فرض استراتيجية الردع والاستعلاء، التي حاول الاحتلال ومعه أمريكا والحلف الغربي فرضها على المنطقة طوال سنوات عديدة، فقلب الطوفان الطاولة عليهم، وقلب معها مخططاتهم وموازينهم وتوازنهم، وكشف وحشتيهم التي لطالما أُلبست زورًا وبهتانًا ثوب الحضارة المزيفة.

 وأضحت المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حماس، قبلة لحركات التحرر العالمية التي تلتف حولها الجماهير الحرة في العالم معظمة بذلك الوعي بقيم العدالة والحرية مقابل العنصرية الفاشية الوحشية وضد التسلط والهيمنة والمركزية الأمريكية والغربية، وربما تشهد فلسطين  قريبًا انتحار المركزية الغربية "الفاضلة" التي لا تبالي إلا "بالعرق الأبيض" وتجعل "الأغيار " دون البشرية، وتكون غزة نهاية لسلسلة طويلة من الإجرام الغربي بحق الإنسان إبادة، ونهبًا للثروات في مختلف جغرافيات العالم.