لطالما كان عبد الله البرغوثي "أمير الظل"، صورة حيّة للفلسطيني الحرّ، ونموذجًا فريدًا لرجال فلسطين الذين أقسموا على حب الوطن حتى الرمق الأخير. لم يسع إلى منصب ولا إلى جاه، بل آمن بفكرة حملها في قلبه ودفع ثمنها من عمره وحريته. اعتُقل وتعرّض للتنكيل بعد أن خطط ونفذ عمليات فدائية ضد الاحتلال، وحُرم من نور الحياة حين زُج به في العزل الانفرادي لسنوات طويلة. ورغم سنوات الاغتراب التي سبقت عودته، ظل حب البلاد يسكنه حتى عاد إلى أرضه والتحق بالمقاومة، ليصبح مع مرور الزمن واحدًا من أبرز مقاتلي كتائب القسام ورمزًا ثابتًا في الذاكرة الفلسطينية.
من هو أمير الظل؟

تعود أصول عبد البرغوثي إلى بيت ريما قضاء رام الله، رحل والده في السيتينيات إلى دولة الكويت، ثم انتقلت العائلة إلى عمان إثر الغزو العراقي، لتواجه أزمة مالية خانقة، تحمّل عبدالله المسؤولية في عمر مبكر، وفتح ورشة لميكانيكا السيارات، لكن لم تسير الأمور كما توقع من الناحية المالية، فسافر إلى كوريا الجنوبية، ودرس الهندسة الكهربائية، وبقي هناك ست سنوات.
في كوريا، أتقن مجال الحاسوب والاتصالات، وصناعة المتفجرات، وتزوج من فتاة كورية، لكن زواجه لم يدم طويلًا، فقد أُبعد إلى عمان إثر حادثة قذف الشرطة الكورية بقنبلة مولتوف خلال مظاهرة احتجاجية على اغتصاب جنود أمريكان لفتاة كورية، وحجزت كوريا على أمواله في البنوك، ومن هناك بدأت حكاية مغايرة ل "أمير الظل".
عاد إلى البلاد نهاية التسعينيات، وبدأت حكاية المهنس الذي طبق ما تعلمه في كوريا، فهناك دمج بين صناعة المواد المتفجرة وصناعة المواد الإلكترونية التي تلزم لها، فصار خبيرًا على حد قوله في المجالين، وتعلم القنص أيضًا. استقر البرغوثي في القدس وعمل في مصنع، ثم بدأ العمل في أعماله الخاصة، لكنه بدأ يراجع نفسه وهو يحيد عن الطريق الذي أقسم أن يكون فيه: "لم أعد أمير الظل بل تاجرًا يجمع المال الذي لم أكن بحاجة إليه أصلًا، لم أعد مهندسًا على الطريق، بل مجرد مهندس يسخر نفسه لإنجاح مشاريعه".
اقرأ أيضًا: غفران زامل وحسن سلامة: ميثاق مقدس لا يناله الاحتلال
دبت فيه روح الانتقام في العام 2000 لتكون شرارة الانتفاضة الثانية، ليمشي في طريق المقاومة ولا يحيد عنه، وعندما سألوه، لماذا اخترت الطريق؟ أجاب: "المعارك تختارنا ولا نختارها"، دخل في سلك العمل المقاوم عن طريق ابن عمه بلال البرغوثي، فأقام معملًا للتصنيع العسكري وإنتاج الصواعق، وهو يعد خليفة المهندس الشهيد يحيى عياش، إذ قام بعدة عمليات: "عملية سارو، والجامعة العبرية، مقهى مومنت، والنادي الليلي". وقد تسبب في مقتل عشرات الإسرائيلين وإصابتهم.
وبذلك وضع البرغوثي مهندس القسام على لوائح الملاحقة الإسرائيلية، ليتم اعتقاله عبر عميل لجهاز الشاباك، إذ تمكن من التقاط صوره وسحبه لكمين للجيش ليُعتقل أمير الظل في 5 مارس 2003.
عن الاعتقال والعائلة

لأمير الظل عائلة صغيرة، كونها في سنوات النضال، تزوج بعدما أرهق والدته بشروطه، لكنها حققتها بفتاة آنذاك رأى فيها أمله، ليتزوجها وينجبا أسامة، تالا، صفاء، ليكونوا خير إرث لمهندس القسام. اعتُقل في العام 2003 بينما كان يصطحب ابنته تالا للمشفى، في موقف بلدية البيرة وضع ابنته بالسيارة، وتصدى لكلبين بوليسيين هاجماه، وباغتته قوات خاصة واعتقلته بعد مطاردة دامت عامين. يقول أمير الظل: "كنت أعلم أن هذه اللحظة قد تأتي، فمن يقاوم الاحتلال ينال إما شهادة أو اعتقالًا أو نصرًا، وأنا كنت مستعدًا للشهادة، فالمقاومة لم تكن بنية جاه بل كانت خالصة لله".
نكل وعذب لخمسة أشهر متواصلة وصفت بأنها الأقسى، وكان معزولًا من 2003 وحتى 2012، وحُكم عليه آنذاك بالسجن بسبعة وستين مؤبدًا، و5200 عامًا، بتهمة قتل 67 إسرائيليًا في 188 عملية، ليبدأ حرمانه من عائلته فمنعوا من زيارته لأعوام، في العام 2016 كانت أول زيارة لزوجته بعد 7 أعوام من المنع، إذ ليقول لها: "سأخرج حتمًا ونلتقي.. لا تقلقي". وبعد شهر من الزيارة التي عبر فيها الأحبة عن أشواقهم، خرج من العزل الانفرداي إلى سجن جربوع، ليواصل تعليمه في تخصص التاريخ، ويكتب المؤلفات التي برزت ومنها المقصلة، الماجدة، وأمير الظل.
يرى أمير الظل في يحيى عياش النموذج البطل، يقول: "عياش المهندس القسامي الذي أعاد لي روح المقاومة". ليقسم وقتها أن يحرر كل فلسطين، ويبدأ العمل المقاوم. حُرمت عائلة البرغوثي من الشيخ كما لقبه مقاتلو القسام، فكتبت تالا البرغوثي الذي لم تعش معه سوى 3 أعوام في إحدى رسائلها لوالدها: "من أنت يا أمير الظل؟ من أنت؟ قالوا عنك جبارًا قويًا لا ترحم، وأنك تملك عقلين لا عقلًا واحدًا مثل البشر".
أما صفاء ابنته التي كانت عمرها عامًا، وقت اعتقال والدها، كتبت له رسالة في العام 2017، "بابا إحنا كل يوم وكل لحظة بنتذكرك، وضلك صامد وثابت، وإن شاء الله يا بابا السنة القادمة بتكون معنا وبيننا، أنا من حقي أشوفك وتعيش معي، كررت كلمة بابا كثير لأني ما بقولها".
اقرأ أيضًا: زغاريد مؤجلة... أمهات رحلن قبل لقاء أبنائهن الأسرى
الآن، يعاني الشيخ من وضع صحي كارثي، إذ تمكّن منه مرض الجرب (السكابيوس)، ويتعرض لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، يقتحم الجنود زنزانته قائلين بسخرية: "اشتقنالك"، ثم يتناوبون على ضربه، ولا يملك إلا أن يردد بصوت خافت وهو يبتسم: "يارب الشهادة".
ويتعرض بعد الضرب العنيف إلى نزف شديد، لكن الأسرى جميعهم يلفون النزيف ببلوزة، وتبديلها بجزء آخر حتى تمتص الدماء، يعاني عبدالله من كسور في الكتف والكوع وتمزق بالأوتار، وتحديدًا أوتار الكف فلا يحرك يد واحدة والثانية تتحرك بصعوبة، ولا مسكنات تهدىء الألم.
وعند عودته من كل زيارة يمسكون برأسه ويضربونها بخمسة أبواب وبالتدريج، حتى يُصاب بالدوخة، وهكذا يوميًا يُضرب بعنف والكلاب تحيطه من كل جانب، ومنذ 7 أكتوبر ينتقمون منه يوميًا، إذ يرفضون اسمه في صفقة تبادل الأسرى، ولكنه لا يُصدق هو ابتعاد حلم الحرية.
لا يزال أمير الظل البالغ من العمر 53 عامًا، يعاني أشد المعاناة في السجون، لكنه أيقونة حرة خلف السجون، ومهما نكل به الاحتلال، يبقى المهندس الفذّ، الذي دوّخ "إسرائيل".

