"كما انتزعنا حقنا في الحياة وفي زواجنا… سننتزع باقي حقوقنا في الأمومة والأبوة رغمًا عن السجان". في فلسطين، للحب والارتباط معنى آخر، إذ لا يُكتب العشق على ورق الورد، بل على جدران السجن، ولا تُقام الأعراس في القاعات، بل في الذاكرة، على وعدٍ مؤجل لا يخيب. غفران زامل وحسن سلامة، حكاية بدأت في قلب الجرح الفلسطيني، فامتدت لتصبح ميثاقًا مقدسًا بين الحرية والوفاء، بين الصبر والحلم، بين رجلٍ يحمل عمره خلف القضبان، وامرأةٍ حملت قلبها على كفّ الأمل، تقاوم الانتظار بكرامة لا تنكسر.
عُرس ممتد لأكثر من 15 عامًا

كان اللقاء الأول بين غفران زامل، ابنة نابلس، والقيادي الأسير حسن سلامة، لقاء من نوع مختلف. لم تجمعهما الصدفة ولا روتين الحياة اليومية، بل رسالة واحدة كسرت المسافة بين السجن والعالم. منذ ذلك الحين، بدأت الحكاية التي ستتحول إلى ميثاقٍ أبدي، لا يبدده البعد، ولا يعتقه الاحتلال. لم يكن ارتباط غفران بسلامة مجرد زواج، بل كان بطولة وتضحية وارتباطًا نضاليًا تكرسه الحركة الأسيرة .
كانت تعرف تمامًا أن من اختارته ليس كأي رجل، بل أحد قادة "الثأر المقدس"، الرجل الذي دوّخ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وأفقدها توازنها، وحُكم عليه بالسجن المؤبد 48 مرة، إضافة إلى ثلاثين عامًا. ومع ذلك، قالت "نعم"؛ قالتها بثقة امرأة ترى في السجن طريقًا للحرية، وفي الحب وسيلةً للبقاء.
من خلف الجدران، تحوّل حسن وغفران إلى رمزٍ لعلاقةٍ تتحدى الزمن، تتغذى من الذاكرة والمراسلات، وتُثمر عن يقينٍ لا يزول. لقد أدركا أن الاحتلال قادر على تقييد الجسد، لكنه عاجز عن كسر العهد بين قلبين آمنَا بأن الوفاء شكل من أشكال المقاومة.
اقرأ أيضًا: زغاريد مؤجلة... أمهات رحلن قبل لقاء أبنائهن الأسرى
في عام 2010، أُعلن عن زواج الأسير حسن سلامة من غفران زامل، ليبدأ بذلك عرس فلسطيني ممتد منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، لم تعرف نهايته بعد. لم يكن العرس احتفالًا بالموسيقى أو الأزهار، بل احتفالًا بالصبر واليقين. لم يجتمع العروسان تحت سقف بيتٍ واحد، لكنهما اجتمعا في معنى أكبر: معنى الانتماء. وحين سُئلت يومًا: "كيف تصمدين؟"، أجابت بابتسامة تشبه شمس نابلس: "لأنني لم أتزوج سجينًا، بل تزوجت قضية.”
على مدار السنوات، ظلّ هذا العرس ممتدًا في الزمن، مؤجلًا إلى أن يفتح الباب ذات يوم. كانت غفران تُعدّ له كمن تُعدّ لحريتها، تحمل رسائل حسن، تحفظ صوته في الذاكرة، وتنتظر اللحظة التي يعود فيها ليكمل ما بدأه. أما حسن، فكان يكتب إليها من عزله الانفرادي، في كل رسالةٍ نبض حياةٍ صغيرة تُبقيه على قيد الأمل.
صفقات تبادل وفيتو "إسرائيلي"

في كل صفقة تبادل أسرى، كانت غفران تترقب، وقلبها بين الدعاء والرجاء، لكن الاحتلال، في كل مرة، كان يُصرّ على إبقاء اسم حسن سلامة خارج القوائم. ليس لأن مكانه غير معروف، بل لأنهم يعرفونه جيدًا. يعرفون أنه من قادة عمليات الثأر المقدس في غزة عام 1996، وأنه أصبح أحد أكثر الأسرى رمزية في الوعي الفلسطيني. وفي صفقة وفاء الأحرار عام 2011، التي أفرج فيها عن أكثر من ألف أسير، أصرّ الاحتلال على استثنائه، كنوع من الانتقام الشخصي، ومنع العروسين من اللقاء.
كانت إسرائيل تعرف أن الإفراج عن سلامة سيكون بمثابة انتصار معنوي كبير للمقاومة، فمارست "الفيتو" بدمٍ بارد، متجاهلة القوانين والأعراف، ومتحدية إنسانية العالم. ومع كل استثناء، كانت غفران تزداد إيمانًا بعدالة قضيتها، وتقول في صمتها: "من يُخيفهم لقاء أسير بعروسه، فليعلم أن النصر أقرب مما يظنون".
اقرأ أيضًا: بمؤبدي الحكم والحب.. "حسن وغفران يلتقيان على الورق"
في عام 2011، حين حُسمت صفقة التبادل، كتب حسن سلامة من داخل سجنه رسالة إلى رفاقه الذين تحرروا، قال فيها: "كنت أتمنى وإخواني أن نكون معكم، لكنها إرادة الله، وأعلم أنكم فعلتم ما تستطيعون". تلك الكلمات لم تكن مجرد مواساة، بل بيانٌ من قائدٍ يعرف معنى النضال الحقيقي. لم يندب حظه، ولم يعبّر عن ألمٍ شخصي، بل قدّم دروسًا في الثبات، ورفع معنويات من حوله، حتى وهو داخل زنزانته المعزولة منذ أكثر من 14 عامًا.
أما غفران، فكانت تقرأ رسالته وتبتسم، تقول لنفسها إن هذا الصوت الذي لم يخفت رغم العتمة، لا بد أن يسمعه الفجر يومًا. كانت تعرف أن اللقاء قد يتأخر، لكنه لن يُلغى، لأن كل ما يُبنى على الإيمان لا يهدمه القهر.
مؤبدًا و30 عامًا.. ولا يزال الأمل قائمًا

48 حكمًا مؤبدًا، و30 عامًا إضافية، و14 عامًا من العزل الانفرادي، هي أرقامٌ تصف ما أراد الاحتلال أن يكون مستحيلًا. لكن خلف هذه الأرقام، هناك إنسان ما زال يؤمن، وامرأة ما زالت تنتظر، ووطن بأكمله يرى فيهما ملحمة الصبر الفلسطيني. لم تترك غفران يومًا باب الأمل مغلقًا، كانت تقول لمن يسألها عن مصير هذا الانتظار الطويل: "طالما أن الاحتلال باقٍ، سيبقى الأسر، لكن طالما أن فلسطين باقية، فسيبقى الأمل بالحرية."
واليوم، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على ذلك العرس المعلّق في الذاكرة، ما زال حسن سلامة خلف القضبان، وما زالت غفران على وعدها، لا تملّ الدعاء، ولا تفقد البوصلة. بينهما وبين اللقاء مسافة قصيرة اسمها الحرية، مسافة يعرف الفلسطينيون أنهم سيقطعونها يومًا، مهما طال الطريق، لأن الاحتلال يزول، بينما الحبّ المجبول بالصبر، يبقى خالدًا كالأرض.

