منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، بدأت إبادة جماعية هي من أحلك فصول المأساة الإنسانية في التاريخ المعاصر. بعد مرور أكثر من عامين، لم يتحقق وقف إطلاق نار حقيقي، بل استمر القصف والقتل والتجويع تحت مسميات مختلفة، بينما يواصل السياسيون لعبتهم لإسدال الستار عن بربرية العدو الإسرائيلي الذي أظلمت صورته أمام العالم أجمع خصوصا بعد تسريب فيديو اغتصاب الأسير الفلسطيني في معتقل سدي تيمان.
سُجل خلال شهر وقف إطلاق النار نحو 236 شهيد و600 جريح معظمهم من النساء والأطفال، وما زالت آلاف الجثث تحت الأنقاض، و90% من أهل غزة يعيشون في الخيام نازحين من بيوتهم في خيام إن وجدت، أو مشردين في أنقاض البيوت المهدمة.
في كل بيت غزّي قصة فاجعة، وفي كل حيّ رائحة موت، بينما تتحول المستشفيات إلى مقابر مؤقتة لشهداء القصف المستمر. لم تسلم أي منطقة من الدمار، ولم يعد هناك مكان آمن في غز ولا تزال أكثر من 50 % من غزة محتلة. وقد تجاوز عدد النازحين مليونين من سكان القطاع، ينامون في خيام أو على الطرقات، بعد أن هدمت أماكن النزوح وتوقفت المدارس والمستشفيات عن استقبال المزيد للنزوح إليها. والرحلة من شمال القطاع إلى جنوبه لم تكن سوى انتقال من ركامٍ إلى ركام، ومن خطرٍ إلى آخر.
كما انهار النظام الصحي في غزة بالكامل تقريبًا، المستشفيات تعمل بما تبقى من وقود، وغرف العمليات تفتقر إلى المواد المعقمة، والأطباء يجرون الجراحات أحيانًا بلا تخدير. أكثر من 42 ألف مصاب يعانون من إعاقات دائمة، وآلاف الأطفال بحاجة إلى علاج عاجل خارج القطاع، لكن المعابر مغلقة والمساعدات الطبية محدودة. حتى المياه الصالحة للشرب أصبحت رفاهية نادرة، والأوبئة تنتشر في مخيمات النزوح المكتظة.
الجوع لم يعد نتيجة الحرب، بل سلاحًا ممنهجًا. الاحتلال يمنع دخول المواد الغذائية والوقود، ويعرقل مرور قوافل المساعدات، فيما تنتظر العائلات ساعات طويلة للحصول على وجبة واحدة. في الأشهر الأخيرة، استشهد عشرات الأشخاص بسبب سوء التغذية والمجاعة، بينهم أطفال ورضّع.
فكانت مجاعة مهندسة مصمّمة بعناية لإخضاع الناس وإضعافهم، تُدار تحت أعين العالم، وتُبرر بذرائع أمنية زائفة. تتكرر محاولات إعلان "وقف إطلاق النار"، لكن الواقع لا يتغيّر.
فيما مضى أعلنت الهدنة، ولكنها خُرقت واستمرت الغارات. تُفتح ممرات إنسانية، ثم تُغلق بعد ساعات. تُبرم اتفاقات جزئية، لكن الاحتلال يماطل في تنفيذها أو يستغلها لإعادة التموضع العسكري.
ما يجري ليس وقفا للحرب، بل إدارة مدروسة للحرب تُبقي غزة على حافة الموت دون أن تسمح لها بالحياة. لأن كل يوم تأخير يعني المزيد من الجثث والمزيد من الجوع والمزيد من الألم. لأن الحرب على غزة لم تعد حربًا على المقاومة، بل حربًا على الوجود الإنساني نفسه. كل بيتٍ مهدوم، وكل طفلٍ جائع، وكل ممرضةٍ تعمل بلا دواء، هو شاهد على استمرار الحرب، التي أثبت مرارًا أنها تجميد للحرب وتمديد للقتل البطيء.
منذ شهر من الآن أبرم اتفاق وقف النار، ولكنه اتفاق هشّ ضعيف، يخرق وقتما شاء العدو، إذ يطلق النار بذرائع واهية، ويغلق المعابر ويتحكم بالمساعدات، ويهندس الجوع والقتل البطيء، مع تهديد مستمر باستئناف الحرب، ما يرهق الأهالي نفسيًا ومعنويًا وهم يترقبون الأحداث التي اللعبة السياسية، وتطبيق بنود الاتفاق.
ما تحتاجه غزة اليوم فتحٍ كامل للمعابر أمام المساعدات الإنسانية، وإصلاح المنظومة الصحية، وإخراج المصابين والجرحى للعلاج، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. في غزة، لا تنتهي الحكاية بانطفاء القصف، بل تبدأ من جديد مع كل فجرٍ يمرّ على أمٍّ تبحث عن أبنائها بين الركام، وطفلٍ يسأل عن بيتٍ لم يعد موجودًا. هناك، تتنفس الأرواح على فتات الأمل، وتكتب الحياة قصيدتها الأخيرة على جدرانٍ مهدّمة. قفوا مع غزة، ليس لأنّها تحتاج العطف، بل لأنها مرآة الإنسانية العالمية.

