بنفسج

الحاجز الإسرائيلي: أداة عقابية تلتهم الروح والجسد

الأحد 05 أكتوبر

الحواجز الإسرائيلية ممارسة استعمارية عقابية
الحواجز الإسرائيلية ممارسة استعمارية عقابية

يشكّل الحاجز الإسرائيلي أكثر من مجرد بنية تحتية عسكرية أو أداة أمنية، فهو جزء لا يتجزأ من البنية الاستعمارية التي تسعى إلى إعادة تشكيل المكان الفلسطيني وزمنه، بل وإعادة إنتاج السيطرة على الإنسان الفلسطيني عبر المكان والزمن والجسد. تأتي أهمية مقاربة الحاجز نظريًا من كونه ليس مجرد حاجز مادي، بل جهاز استعمار-عقابي يُعيد صياغة العلاقة بين الفلسطيني وجسده في بعدي الزمان والمكان. .

الحاجز أدة عقابية

الحواجز الإسرائيلية ممارسة استعمارية عقابية

يُمثّل الحاجز ممارسة استعمارية عقابية على شكل بوابة، يضعها وقتما يشاء، تدوم لأشهر وربما لسنوات، أو حاجز طيار باستخدام آلياته ومصفحاته، وغيرها من الحواجز التي تسمى طيّارة، أي مؤقته توضع لتحقيق هدف ما، مثل الاعتقال والمطاردة، أو لمجرد التضييق على الناس، من العمال العائدين إلى بيوتهن، أو الطلاب العائدين من جامعاتهم، تثبيتًا للأداة الاستعمارية في كل وقت وكل مكان في عقل الفلسطيني، وحيًا بالتحكيم الدائم والمسيطر، وإحساس بالمراقبة الدائمة. يقوم الحاجز على تفتيت المكان الفلسطيني وتحويله إلى مقاطع معزولة، ما يفقد الفلسطيني صلته الطبيعية بأرضه وامتداده الجغرافي.

بهذا المعنى، يصبح الحاجز أداة لتكريس التجزئة المكانية وتحويل الفلسطيني إلى "غريب" في جغرافيته الخاصة. ولا يقف الحاجز عند حدود الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، بل يتجاوزها إلى فرض عقاب جماعي على الفلسطينيين. الانتظار لساعات طويلة، التفتيش المهين، أو حتى المنع من المرور، كلها أدوات مقصودة تهدف إلى إذلال الفرد وتحويل العبور إلى اختبار دائم للكرامة. بذلك يصبح الحاجز مؤسسة عقابية تُعاقب الفلسطيني على مجرد وجوده. 

التحكم بالزمن الفلسطيني

الحواجز الإسرائيلية ممارسة استعمارية عقابية

مع الحاجز الإسرائيلي تصبح حياة الفلسطيني ودورتها مرتبطة بهذه الأداة؛ فيخرج إلى عمله قبل موعده بوقت طويل، ويحدد موعد العرس وانطلاق موكب العروس من قرية إلى أخرى بحسب وجود الحواجز، ويسافر عبر جسر اللنبي/ الكرامة، عن طريق استراحة أريحا قبل يوم واحد من موعد الطائرة، ولم تعد العائلات ترجع من المدينة إلى القرية أيام العطل الأسبوعية لصعوبة الطرق الالتفافية البديلة وخطورتها. 

وفق ميشيل فوكو، تقوم السلطة الحديثة على السيطرة على الحياة والجسد عبر ما يُعرف بالسلطة الحيوية (Biopolitics) والحاجز هو تجسيد مباشر لهذه الفكرة؛ إذ يتحكم في الجسد الفلسطيني، حركته وزمنه. ويقرر متى يُسمح له بالمرور ومتى يُمنع. ويحوّل الفلسطيني إلى "جسد تحت الاختبار"، فيصبح الانتظار والإذلال شكلًا من أشكال السيطرة اليومية.

أما جورجيو أغامبن أن الدولة تُنشئ فضاءات قانونية -لا قانونية تُسمى حالة الاستثناء، حيث يُجرَّد الفرد من حقوقه الطبيعية، وفي نموذج الحاجز؛ فالفلسطيني يدخل في حالة استثناء دائمة، كما أن وجوده عند الحاجز محكوم بقرار سيادي آني مثل مزاج الجندي أو تعليمات أمنية غامضة مفاجئة. كما يتحول الفلسطيني إلى “حياة عارية (Homo Sacer)، أي كائن يمكن التحكم بحياته وموته بلا مساءلة قانونية.

فالحاجز الإسرائيلي، إذن، ليس مجرد نقطة تفتيش، بل مؤسسة استعمارية -عقابية تتجسد فيها نظريات السلطة الحيوية وحالة الاستثناء. فهو في آنٍ واحد فهي أداة ضبط يومي تتحكم في أجساد الفلسطينيين وحياتهم، وفضاء استثنائي يُجرّدهم من حقوقهم ويضعهم تحت رحمة القرار الاستعماري.
بهذا المعنى، يمكن النظر إلى الحاجز كأحد أكثر تمظهرات الاستعمار كثافةً وإيغالًا في الحياة اليومية للفلسطينيين، فيتحول العبور البسيط إلى تجربة وجودية تعكس علاقة القمع والهيمنة التي يفرضها المشروع الاستيطاني الاستعماري.

قصص الحاجز اليومي

الحواجز الإسرائيلية ممارسة استعمارية عقابية

قضت جارتي، ما يزيد عن الساعة، في اتصال هاتفي، تقص لي عن المغامرات التي مروا بها لذهابهم إلى عرس ابنة أخيها الذي يتوجه فيه موكب العروس "طلعتها" من قرية رنتيس غرب رام الله، إلى العيزرية، وهي قرية قريبة من القدس، ونظريا، لا تبعد أكثر من نصف ساعة من قرية شقبا و15 دقيقة من رام الله، ومع الحواجز والطرق المباشرة التي التهمتها الجرافات، أصبحت هناك طرق التفافية جديدة اعتاد الفلسطينيون والسائقون اجتراحها واكتشاف حواف الجبال فيها للوصول إلى المكان المقصود. 

تقول جارتي: "وصلنا دايخين، ولا كأنه رايحين على عرس، اتبهدلنا والسيارة اتخض فينا، كان بدنا استراحة من الطرق والحواجز قبل العرس... يا حسرة علينا إحنا الفلسطينية".  أصبح الفلسطيني يستغني عن المشاوير التي لا داعي لها، بمنطق العمل، فمن كان يصطحب عائلته في رحلات إلى نابلس، أو تسوق إلى الخليل، أو ترفيه إلى بيت لحم، لم يعد يفكر حتى في أقرب من ذلك. فالمشوار محسوب بدقة. 


اقرأ أيضًا: المشهد الأخير: اصطدمت بحاجز الاحتلال فتوقف قلبها خوفًا


يقول علي طالب، وهو سائق في خط بدرس رام الله، القرى السبع، من قرية بدرس: "بمر ع كل جروبات واتس آب من الفجر بشوف حالة الطريق، السالك بنقول يالله فيه، بنحاول انلف عن الحواجو والطرق المسكرة، من يومه وضع لطرق صعب، بس مع الحرب صار لا يطاق".

أحيانًا يضطر الركاب إلى المكوث لساعات في صف السيارات أمام الحاجز، ولا وقت محدد، إذ قد تذهب الدورية في أي وقت وبشكل مفاجئ، أحيانا يطلبون الهويات جميعها، وأحيانا هويات الشباب فقط، وقد تفتش السيارة كاملة، ويطلبون ترجل كل من فيها وتفتشيهم واحدًا واحدًا، وهذه حالة يومية يعيشها الفلسطيني، ولا نبالغ حين نقول أن حياته نفسيًا وذهنيًا تكون مرتبطة بحالة الطرق والحواجز!