بنفسج

آلاء المصري: أمومة بعد 10سنوات عجاف.. خطفها الاحتلال

الخميس 24 يوليو

استهداف الأطفال في غزة
استهداف الأطفال في غزة

ما أثقل أن يُنادى على أمٍ مرتين في اليوم ذاته: مرةً لتُطعم أبناءها، ومرةً لتدفنهم. وما أغرب قدرة القلب على أن يواصل النبض، وهو يعلم أن كلّ من كان يُنعشه قد غادر. آلاء المصري، أمٌّ من مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، لم تكن تعلم أن صباح الثامن من يناير/كانون الثاني 2024 سيكون الأخير الذي تُعدّ فيه الفطور لطفليها عبد الكريم وأحمد، ولا الأخير الذي تسمع فيه صوت أحدهما يقول: "ماما، أنا جائع". لم تكن تدري أن الابتسامة التي ودّعت بها أحمد وهو يركض إلى حضن والده، ستكون آخر ما تبقى لها من نور هذا العالم.

في زمنٍ تنهمر فيه القذائف أكثر من الأمنيات، وتغدو البيوت قبورًا بلا شواهد، تروي آلاء حكايتها، لا لتُبكي أحدًا، بل لتُقيم الدليل على أن الموت حين يختار، لا يأخذ فقط من نحب، بل يتركنا على الهامش، نعدّ الأيام التي مضت وكأننا لم نكن منها.

بيتٌ صغير وطمأنينة كبرى

أمهات الشهداء في غزة

في بيت صغير بخانيونس، كانت آلاء عبد الهادي المصري تعيش أيامًا مملوءة بالطمأنينة، محاطة بضحكات طفليها: عبد الكريم (8 سنوات) وأحمد (5 سنوات)، إذ كانا كلّ ما تملكه من هذه الدنيا. آلاء، وهي معلّمة لغة عربية، انتظرت عشر سنوات من الحرمان حتى أنجبت عبد الكريم بعد عدة تجارب زراعة أجنة، ثم جاء أحمد كهدية من السماء، فأتمّ على عجل ما بقي من حلمها في الأمومة.

تقول لـ "بنفسج": "لم أسعَ لطفل ثالث، شعرتُ أن الله أكرمني بهما، فقد كانا روحي وسبب ابتسامتي". وعن علاقتها بطفليها تقول آلاء بأنها لم تكن مجرد علاقة أمومة، بل صداقة عميقة، ولغة خاصة لا يفهمها سواهم.


اقرأ أيضًا: "هذا الرقم آخر من اتصل بهذا التلفون".. عن ضغطة زر قتلت 48 شخصًا


وقد كان عبد الكريم طفلاً ناضجًا يفوق عمره حكمة وهدوءًا، ذكيًا، صاحب شخصية مستقلة، ورفيقها اليومي إلى المدرسة، "كنتُ أستشيره في كل شيء، حتى في اختيار ملابسنا."، كان رجلاً بحجم طفل. أما أحمد، فكان الأكثر تعبيرًا عن الحبّ، لا يفارق حضنها، يهمس لها بمحبة، ويخشى على والديه من كل شيء. كان عبد الكريم يحلم بأن يصبح شرطيًا، وكان يستغل كل ركوب في السيارة ليحدّثها عن أحلامه ومستقبله. أما أحمد، فقلّد حلم أخيه، كما قلد خطواته، وكان الحفيد المدلل في العائلتين، محبوبًا من الجميع.

ليلة الفقد

الفقد في غزة

تروي آلاء عن تلك الليلة الأخيرة قائلة: "كانت الليلة التي سبقت رحيلهم، ثقيلة بالقصف، لكن كان في قلبي هدوءًا غريبًا. نام أحمد في حضني ليلتها، ثم استيقظ معي لقيام الليل، وانتظرني حتى أنهيت صلاتي، ثم عاد معي إلى الفراش، كان يخشى أن أبتعد عنه ولو لدقائق."

وتابعت: "في تمام الثامنة والنصف صباحًا، أيقظني أحمد جائعًا، أعدّت لهما الإفطار كعادتي، ثم انتقلت إلى غرفة مجاورة للرد على مكالمة هاتفية، فتبعاني. وفجأة، وقع انفجار قريب، فخرجت إلى الشرفة لرؤية موقع سقوط القذيفة الأولى، بينما بقي الطفلان مع والدهما داخل المنزل. تقول: "لحظة واحدة فقط، ثم سقطت القذيفة الثانية – لكن هذه المرة كانت في بيتنا."

سقطت آلاء أرضًا، وقد شعرت بالموت يمرّ بجسدها، ركضت إليهم مطمئنةً، ظنًّا منها أنهم في الجزء الآمن من المنزل، لكنهم كانوا قد ارتقوا، القذيفة كانت مباشرة؛ شظاياها اخترقت جسدي طفليها، واستُشهدا على الفور في حضن والدهما. "رأيتهم بين أيدي المسعفين، يركضون بهم ويكبّرون: شهداء... شهداء." ثم تصمت طويلًا، وتكمل بصوت مرتجف: "تمنّيت لو متّ معهم... لكنّي والله رضيتُ واحتسبت."

لا شيء يشبه ما كان

استهداف البيوت بشكل متعمد

منذ ذلك اليوم، انقسم الزمن في حياة آلاء إلى "قبل"، و"بعد". تقول: "لا شيء يشبه ما كان: لا لون، ولا طعم، ولا روح لأي شيء. حتى ذاكرتي لا تحتفظ إلا بهما." نزحت آلاء من بيت إلى آخر، حاملة معها بقايا أغراض طفليها وملامحهما، لكنّ البيوت جميعها تعرّضت للقصف: "لم يتبقَّ شيء يخصّهم... سوى ما في القلب."

الحرب لم تقتل طفليّ آلاء فقط، بل قتلت النسخة التي كانت عليها، تقول: "كنتُ كتلة طاقة، أملك الشغف لكل شيء. شعرتُ أن الله أعطاني كل ما أردت ثم فجأة، سُحب كل شيء من تحتي". ورغم هذا الفقد المزدوج، تبقى في قلبها شعلة رجاء لم تنطفئ: "لعل الله يمنحني يومًا أطفالًا يشبهونهما، يحملون ضحكتهم ونظراتهم وصفاتهم."


اقرأ أيضًا: سيلين.. معجزة البقاء من تحت الركام


ولا تقف شهادتها عند حدود الحزن، بل تمتدّ كصرخة ضمير، في وقتٍ تُسجّل فيه التقارير الحقوقية استشهاد أكثر من 15 ألف طفل منذ بدء الحرب على غزة، إلى جانب مئات الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن جميعًا. أرقام لم تعد أرقامًا، بل وجوهًا وأسماء، وقصصًا مثل قصة آلاء، التي تحوّلت من أمٍ تُدرّس اللغة لأبنائها، إلى أمٍّ تتحدّث للعالم بلغتهم الأخيرة: الصمت الموجع.

في نهاية الحديث، تقول آلاء بصوت أقرب إلى الدعاء منه إلى الكلام: "لا أطلب من الدنيا شيئًا، فقط أن يعوّضني الله برؤية وجهيهما يومًا في الجنّة، حيث لا قذائف، ولا وداع، ولا دموع."