بعد 48 ساعة من فقدان الاتصال بعائلتها، رن هاتفها باسم شقيقها، فقالت: "خوفي كان أوهامًا.. عائلتي أحياء"، ردت وكلها أمل بسماع صوته ووالدتها، لكن اخترق أذنها صوت رجل لا تعرفه، قال: "هاد الرقم آخر من رن على هالجوال". فداهمتها نوبة هلع، ليكمل حديثه متسائلًا عن علاقتها بصاحب الهاتف، فردت بصوت متحشرج: "أخويا". صمت قليلًا ثم قال: "الله يرحمه استشهد".
لم تستطع النطق... فأكمل حديثه ليخبرها أنه وجد حقيقة بها عدة بطاقات شخصية، وطلب منها أن تُعرف صلة قرابتها بأصحابها، كانت الحقيبة لوالدتها وإذ به ينطق اسم والدتها أولًا ثم أكمل أسماء باقي أشقائها، سألته: "مضلش ولا حد". رد: "بقي 4 أطفال مصابين، وها هم لوحدهم في المشفى".
قابلنا في هذا الحوار أمل الشاويش فاقدة فقدت والدتها وأشقائها وأطفالهم، بعد استهدافهم بشكل مباشر في مكان نزوحهم في شاليه بالنصيرات وسط قطاع غزة، لتحكي عن ضغطة زر قتلت 48 شخصًا دفعة واحدة، عن أن تكون مغتربًا بعيدًا عن أهلك، وقهر الاغتراب وعيش الحرب من الخارج.
عذاب عن بعد
في 8 ديسمبر 2023، لم تنم أمل مطلقًا، تتنقل بين القنوات الإخبارية، كانت خائفة بشكل لم تعتد عليه من قبل، فسر خوفها بأن مكروهًا أصاب شقيقها المعتقل في السجون الإسرائيلية، في تمام الساعة السابعة صباحًا قرأت الخبر: "قصف شاليه في النصيرات". لم يمر يومان على نزوح عائلتها المكونة من والدتها وأشقائها الثلاثة وزوجاتهم وأولادهم، ونسباء العائلة.
ركضت لفتح قناة الجزيرة لتبحث بين وجوه الشهداء، لكن لا نتيجة، حاولت التواصل مع مشفى شهداء الأقصى، ومع صحافيين، للوصول لعائلتها الذي انقطع الاتصال معهم، فحاولت الوصول لشقيقاتها لكن الإنترنت وشبكة الاتصالات معدومة في شمال غزة.
تقول أمل ل "بنفسج": "عشت 48 ساعة من الجحيم، قلبي انقبض حتى شعرت أنني سأموت الآن، أبكي، وارتجف، حتى جاءني الاتصال من رجل من المشفى يخبرني الخبر الأقسي بحياتي على الإطلاق".
اقرأ أيضًا: أم الشهيد مجد سلامة: هل عادت الحرب لتأخذ مني مجد؟
كانت أمل معتادة على السفر إلى القاهرة لجلب بضاعة لمتجرها في حي الرمال، سافرت قبل الحرب بأشهر للعلاج ولتحضير كمية من المستلزمات للمتجر، تضيف: "ياريت ما بعدت عن حضن إمي.. ياريت ضليت جنبها".
منذ اليوم الأول للحرب بدأت أمل برسم السيناريوهات المريرة، فتخبر زوجها: "أنا مش رح يضل الي حد هنقطع من شجرة". لا تنام من هواجسها وأفكارها حتى أصابها القولون العصبي، تهدأ عندما تسمع صوت والدتها تطمئنها لكن حدسها يخبرها أن الله سيبتليها بالفقد بأعز ما تملك.
وبالفعل حدث ما تخاف، والدتها باسمة، شقيقها على وزوجته مرفت وبناته ملك وأسيل، وأحمد، وعاهد وزوجته أسماء، نجت لهم طفلة مات كل من عائلة والدتها ووالدها، ما عدا العمات الأربعة والعم الأسير.
من ذاكرة أمل
مر عام ونصف على تلقي أمل لاستشهاد عائلتها، وما زال وجه أمها يحضرها، تخاف أن تخونها الذاكرة فتنسى صوتها ووجهها، تقول بصوت منهك: "كنت قد طلبت من والدتي أن أجلبها عندي بالقاهرة، لتنجو من الموت، لكنها رفضت قائلة: "بدك إياني أسيب أخوكي المعتقل وغزة إن شاء الله تطلع روحي ولا بطلع"، فصمت يومها، وليلة استشهادها هاتفتها لآخر مرة رفقة أخي، فأوصتني على الاهتمام بصحتي، وأن لا أتوتر وأخاف عليهم".
بعد رحيل العائلة، عرفت أمل من شقيقتها أن والدتها وأشقائها وزوجاتهم كانوا يشعرون بقرب الأجل، لكن أمها لم تكن تقلقها رأفة بها في غربتها، تستذكرها أمل بصوتها الرقيق وهي تقول: "سميتك أمل لتكوني أملي.. أنا بتفائل فيكِ". تردف أمل: "يليق بأمي وأشقائي وزوجاتهم الشهادة".
تقول: "كانت والدتي تتمنى أن تزوج شقيقي الأصغر بعمر مبكر، ومتحمسة جدًا لأجواء الفرح، كانت أحلامها بسيطة رفقة أحلام أشقائي القنوعين بما قسمه الله لهم".
لم تعتد بعد أمل على الحياة دون عائلتها، يوم ولادتها قبل 6 أشهر، بكت كثيرًا كونها المرة الأولى دون والدتها وزوجة شقيقها الممرضة مرفت، تكمل: "شعرت نفسي لأني أقاتل في معركة ضارية دون سلاح، وعندما بدأ مفعول التخدير بالظهور حلمت بهم جميعًا يرتدون الأبيض، كان الحلم حقيقيًا لدرجة أنني صدقته".
اقرأ أيضًا: الصحفي إبراهيم الشيخ علي: الموت حرقًا ثمن الحقيقة
كانت تتمنى أمل أن ترى أسيل وملك أبناء شقيقها علي، التي تطلق عليه لقب "الغالي حبيب بناتي"، في كل محادثة لهما في الحرب كان يخبرها بمدى شوقه لها ولبناتها، أما عاهد كان شريك العمل والنجاح، ترك لها ولشقيقاتها أمانة كان عمرها آنذاك عامين.
تختم حديثها: "لا أعرف مصير شقيقي المعتقل في السجون الإسرائيلية، هو آخر ما تبقى لي ولشقيقاتي الثلاثة من الأخوة، والآن كل ما أريده أن تنتهي الحرب لينجو باقي الأحبة، يكفيني ما خسرته".