بين صفحات الكتاب التاريخية، توجد نساء كن في الصفوف الأمامية، وضعن لهن بصمة لا تُنسى، فذكرهن التاريخ بعد حقب زمنية طويلة، والسيدة تماضر بيت عمرو السلمية التي تُعرف ب "الخنساء" واحدة من أبرز نساء العرب في الجاهلية والإسلام، شاعرة عربية أصيلة، عُرفت بشعرها الرثائي الحزين الذي يبكيك من لوعة الفقد، نصوص جزلة بسيطة، قوية التعبير، عميقة المشاعر.
اشتُهرت الخنساء بعد وفاة شقيقيها صخر ومعاوية، فعبرت عن ألمها الممتد بالشعر وبكت وصرخت وتألمت، ثم فقدت 4 من أبنائها دفعة واحدة في معركة القادسية، لتربط على قلبها وتردد "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته". كانت أمًا صابرة محتسبة، شاعرة فريدة، ومؤمنة صادقة.
نتعرف هنا في بنفسج على السيدة الخنساء ومحطات حياتها، من أول إعلانها إسلامها، مرورًا بعالم الشعر التي عُرفت به، وبأولادها وشقيقيها الذي فقدتهم، نهاية بوفاتها.
عن الخنساء وإسلامها

هي تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية، صحابية وشاعرة، قُتل أخواها صخر ومعاوية في الجاهلية، فاشتُهرت برثائها لهم. قيل لها: "صفي صخر ومعاوية، فقالت: "إن صخرًا كان الزمان الأغبر، وذعاف الخميس الخميس الأحمر. وكان معاوية القائل الفاعل. فقيل لها: "أي منهما أسنى وأفخر؟ فأجابتهم: "بأن صخر حر الشتاء، ومعاوية برد الهواء. قيل: "أيهما أوجع وأفجع؟ فقالت: أما صخر فجمر الكبد، ومعاوية سقام الجسد.
لم تذكر صحف التاريخ موعد ميلاد محدد للخنساء، ولكن يُعرف أنها ولدت في نجد، لديها من الإخوة اثنين، فتربت تربية مثالية وكانت صاحبة أخلاق رفيعة، وأبرز شاعرة عربية في الجاهلية.
كانت قوية الشخصية لها رأي مستقل، رفضت الزواج من رجل من قبيلة بني جشم يُدعى دريد بن الصمة، لأنها أردات الزواج من قبيلتها، فتزوجت من ابن عمها رواحة بن عبد العزيز السلمي، أنجبت منه ولدًا، ثم انفصلت عنه لأنه كان مقامرًا، وبعدها تزوجت من ابن عمها مرداس بن أبي عامر السلمي، وأنجبت منه أربعة أولاد.
أما عن لقبها الخنساء؛ فلُقبت به لقصر أنفها وارتفاع أرنبتيه، وقال الحصري عنها في كتاب زهر الأدب: "لُقبت بالخْنَساء كناية عن الظبية وكذلك الذلفاء والذلف قصر في الأنف ويريدون به أيضًا أنه من صفات الظباء".
أسلمت في السنة الثامنة للهجرة تقريبًا، عندما ذهبت مع وفد قبيلتها بني سليم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، اقتنعت بالإسلام أثناء حديث النبي عنه ودعوتهم له، فحسن إسلامها حتى الموت. وظهر ذلك جليًا عندما حثت أولادها الأربعة على الجهاد في سبيل الله.
اقرأ أيضًا: سناء سلامة: صاحبة السجين الوفية لرفات الشهيد
ذهب أولادها إلى معركة القادسية، فوصتهم قائلة: "إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، وتظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة. ثم ختمت حديثها قبل توديعهم للمعركة بقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
بعدها بلغها استشهاد أربعتهم معًا، فلم تجزع ولم صرخت، وإنما وقفت بثبات المرأة المسلمة الصابرة وقالت مستودعة إياهم: "الحمدلله الذي شرفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته". وهنا ظهرت المفارقة ما بين حالها في الجاهلية عندما استقلبت نبأ مقتل شقيقيها، ووقتها قيل إنها طافت حول البيت محلوقة الرأس، معلقة نعل صخر في خمارها، تصرخ وتلطم.
شعر الخنساء الفصيح

عُرفت الخنساء ببلاغة نصوصها الشعرية، وجمال التراكيب اللغوية، سئل جرير عن أشعر الناس، فأجابهم: "أنا، لولا الخنساء، قيل: فيم فضل شعرها عنك؟ قال: بقولها: إن الزمان ومـا يفنى له عجـب.. أبقى لنا ذنبًا واستؤصل الرأس.
بعد الإسلام تغيرت نصوصها قليلًا، أصبحت تنص الشعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وتحث على الجهاد في سبيل الله، وفي هذا كان الرسول يعجبه شعرها، فيقول: "هيه يا خناس ويومىء بيده".
ومن حديث الرسول عن الخنساء ومدحه لها، في مرة جاء"عَدِي بن حاتم" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله إنَّ فينا أشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سمهم. فقال: "أَما أشعر الناس، فامرؤ القيس بن حُجر، وَأَما أَسخى الناس فحاتم بن سعد يعني أباه، وأَما أَفرس الناس، فَعمرو بنُ معد يكَرِبَ". فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ليس كما قلت.. أَشعر الناس، فالخنساءُ بنتُ عمرو، وَأَما أَسخى الناس، فمحمد يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، وأَما أفرس الناس، فعلي بن أبي طالب".
اقرأ أيضًا: راوية الشوا ويسرى البربري: امرأتان من ذاكرة غزة
كما عُرفت الخنساء أنها شاعرة المراثي، ونجحت ببراعة في كل أنواع الشعر التي كتبتها، ويعد شعرها من أفضل الأشعار العربية، وتُدرس في المناهج الدارسية حتى الآن، وهنا نذكر رثائها لشقيقها صخر: أَلا ابكِ عَلى صَخرٍ وَصَخرٌ ثِمالُنا.. إذا الحَربُ هَرَّت وَاستَمَرَّ مَريرُها.. أَقامَ جَناحَي رَبعِها وَتَرافَدوا".
ومن المواقف التي تُعرف عن الخنساء، موقفها مع هند بنت عتبة، عندما قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فرثتهم هند وقالت إنها أعظم مصيبة عند العرب، وطلبت أن تقارن مصيبها بابتلاء الخنساء، فقالت لها: "من أنت؟ فردت: "أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم أنت؟ فقالت: بأبي عمرو الشريد، وأخي صخر ومعاوية. فبم أنت تعاظمينهم؟ قالت الخنساء: أوهم سواء عندك؟ ثم أنشدت هند بنت عتبة تقول:
أبكي عميد الأبطحين كليهما.. ومانعها من كل باغ يريدهـا.. أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي.. وشيبة والحامي الذمار وليدها.. أولئك آل المجد من آل غالب.. وفي العز منها حين ينمي عديدها. فقالت الخنساء: أبكـي أبي عمـرًا بعيـن غـزيـرة.. قليـل إذا نـام الخلــي هجودهـا.. صنوي لا أنسى معاوية الذي.. له من سراة الحرتيـن وفـودهـا..وصخرًا ومن ذا مثل صخر إذا.. غدا بساحته الأبطال قــزم يقودها.. فذلك يا هند الرزية فاعلمي ونيران حرب حين شب وقودهـا.
وتغنى شعراء العرب بأشعار الخنساء، فقال: النابغة الذبياني "الخنساء أشعر الإنس والجن". أما جرير قال: "أنا أشعر الشعراء لولا الخنساء". وبشار بن برد "شعر المرأة يبين ضعفها إلا الخنساء، لأنها أقوى من الرجال". وقال ابن قتيبة: "مما لا شك فيه أن من تبع الخنساء من شعراء الرثاء وشواعره اغترفوا جميعا من بحرها الفياض بفيض العاطفة البشرية".
عاشت الخنساء في بداية حياتها في الجاهلية، ثم في الإسلام، وكانت من أبرز الأعلام النسائية آنذاك، عرفوها بشاعرة الرثاء، وكانت نابغة في العلوم الشعرية، وبعد عمر طويل، توفيت ببادية نجد عام 24 للهجرة بعد معركة القادسية تحديدًا، وفي نهاية خلافة عمر بن الخطاب، وبداية خلافة عثمان بن عفان.
هنا تحدثنا عن الخنساء شاعرة الجاهلية والإسلام، ونؤكد أن مثل الخنساء أنجبت فلسطين آلاف الخنساوات التي دفعن حياتهم وحياة أبنائهن، لأجل الجهاد في سبيل الله والوطن، فها هي أن نضال فرحات تُمتحن مثل الخنساء تماضر، ومثلها آلاف النساء الفلسطينيات اللواتي يضرب بهن المثل في حرب الإبادة الجماعية، فكن صابرات موكلات أمرهن لله، يطلبن رضا الله وجنته، ويقلن عند البلاء: أمر الله.

