بنفسج

فلسطين في الذاكرة: جميلة تنهشها الذئاب

الأربعاء 20 ديسمبر

فلسطين في الذاكرة
فلسطين في الذاكرة

كانت جدتي تقطن في حي قريب من قصر القبة، القصر الملكي في عهد الملك فاروق، قبل أن تصبح مصر جمهورية، كانت مملكة، وقبل أن يحولوا بيت جدتي العتيق إلى بناية شاهقة، كانت الجدران أكثر طولًا والنوافذ تتخطى المتر والنصف. ذات مرة تطلعت إلى نافذة حجرتها الخاصة، فلمحت أن الجزء العلوي من النافذة فيه جزء صغير مكسور ومطلي باللون الأزرق الداكن. وبفضول المتطلع إلى حكاية من حكايات جدتي سألتها: "ما الخبر يا جدة؟ لم زجاج النافذة مكسور ولم طُلي الجزء العلوي باللون الأزرق الداكن دونا عن باقي النافذة؟"

جدتي حكواتية ماهرة 

فلسطين 4.jpg

كانت جدتي رحمها الله من أمهر الحكاواتية، تقص قصتها بمزيج نادر بين الحكمة والتشويق وخفة الظل، لا تنتهي حكاياتها، ولا تمل منها أبدا...تنهدت جدتي تنهيدة خفيفة ثم قالت: "أيام نكسة 67،كانوا البُعدا ساعة الغارة يلفوا بالطيارات الهليوكوبتر حوالين البيوت، لو لقوا أي ضوء أو حركة، يضربوا النار على طول…".

حدقت بوجهها مشدوهة قبل أن أتأكد من أنهم كانوا يطلقون رصاصهم علي المواطنين المصريين العُزل، فتؤكد جدتي أنهم كانوا يفعلون…ليس من الصعب التصديق علي رواية جدتي، فقد تربينا علي متابعة عشرات المسلسلات والأفلام تقص علينا حكايات الماضي الدامي ،حينما قررت قوات الاعتداء الإسرائيلية الغاشمة الهجوم على مدرسة بحر البقر وقصف الأبرياء من الأطفال… في وقت خروجهم من المدرسة، نفس الأشلاء، نفس الدناءة والخلسة، نفس القهر... التاريخ يعيد نفسه...

هذا عهدنا بهم، نحن لسنا مؤرخين مخضرمين، ولا نحن ساسة محنكون يصدقنا جمهور البلهاء ممن نلوك لهم الكلمات الجوفاء ونتلاعب بالألفاظ الأنيقة كي نبدو مثقفين، نحن تربينا على أن هناك من لا يتواني لحظة عن خطف قرة عينك قبل أن يتحرك جفنك، لا حتى قبل أن تدر كتفك…نحن نعلم الحقيقة، ونصدق ما نسمع حتى لو لم نتحرى خبرا، نحن نعرف قُبُلا...

فلسطين: التاريخ حين يعيد نفسه

فلسطين في الذاكرة
ما يحدث في غزة هذه الأيام، يجدد الذكرى، ويحي أنين الألم، نحن نرى إخوتنا في غزة ممزقون كل ممزق، أطفال ترتعد وقد خرجوا من بين الركام والحطام، فزع وهلع، دموع ودماء لا تنتهي...في ذاكرتي.
 

لمن يحسدون صمودهم، اتق الله، أولديهم خيار آخر؟ولمن ينظرون لحالهم ويحمدون الله على العافية، تأدبوا... الدنيا ليست دار عافية، العافية في الدنيا لأهل الدنيا...

في رواية 1919، أحد الروايات المعاصرة للكاتب أحمد مراد، جسّد كيف كان يتعايش أولاد العم سام مع المصريين في سلام، يتشاركون السكن والجوار نهارًا، وحتى إذا جنً الليل، وسمعوا أبواق الغارة العسكرية، كان يتصاعد أفراد منهم فوق أسطح البيوت وفي أيديهم مرايا، وانعكاس المرايا كانت شارتهم يبلغون حلفاءهم بأماكنهم...

ما يحدث في غزة هذه الأيام، يجدد الذكرى، ويحي أنين الألم، نحن نرى إخوتنا في غزة ممزقون كل ممزق، أطفال ترتعد وقد خرجوا من بين الركام والحطام، فزع وهلع، دموع ودماء لا تنتهي...في ذاكرتي، لن أنسي تلك الممرضة البسيطة، وقفت بهامتها المتهالكة من فرط التعب بين المرضى المتناثرين على ساحة أرض المشفى لنقص المعدات والأسِرة، ثم مروا من أمامها بجثة يحملونها مهرولين للخارج، تلتف المسكينة لتجدها ابنتها وتصرخ بكل ما أوتيت من ألم" بنتي..بنتي!".

والله لا أرى في حياتي شيئًا يضاهي هذا الكم من الألم والحزن و الموت...في أوقات كثيرة، يلجمنا الألم من حجم المصيبة، تذوب الكلمات حياءا من هول الموقف، ما عساك أن تقول لأحدهم وقد فقد أسرته، بيته، وماله وعياله، ومعهم روحه؟ لمن يحسدون صمودهم، اتق الله، أولديهم خيار آخر؟ولمن ينظرون لحالهم ويحمدون الله على العافية، تأدبوا... الدنيا ليست دار عافية، العافية في الدنيا لأهل الدنيا...

هناك الكثير من المصادر الوثائقية المجمعة لو تابعتها ستشعر بحنق مكتوم وهائل ليس إلا من شدة الظلم، ما هذا الافتراء، ما كل هذا القدر من القسوة والبشاعة؟ما يجذب انتباهك ويثير حيرتك أنه من دعي لفكرة بناء الدولة الصهيونية لم يكن يهوديًا ملتزمًا باليهودية، هو فقط روجها للغرب من الدول الاستعمارية أصحاب المصالح، ووجدت فكرته قبولا لحل أزمة اليهود في أوروبا بعد اضطهادهم.ما يثير غيظك هو أن الفلسطينيين أنفسهم هم من يدفعون ثمن نازية الألمان من دمائهم وأرضهم وهويتهم، ليست أمريكا الداعم الأكبر لهذا الخراب المستعجل، وليست ببغاوات أوروبا، وليس ترودو الكندي الذي أبهرتنا سماحته المعوجة مع اللاجئين السوريين والجاليات المسلمة في الماضي. ثبت اعوجاج مبادئهم وزيف سماحتهم في أول محطة...

فلسطين: تنهشها ذئاب صديقة أيضًا 

فلسيطين في الذاكرة.jpg

إن كراهية الأعداء متوقعة ومعتادة ومهما زادت شراسة العدو ودنائته، فهي مفهومة ومبررة، الدافع الحقد وتنافر المصالح. لكن ماذا عن تخلي الجيران والحلفاء عنك؟لو عدنا أكثر من سبعين عامًا وتحديدًا في عام النكبة، سنجد بالحقائق أن حرب 1948 كانت حرب الأسلحة الفاسدة، ابتاعها الحكام الفسدة الطامعين للدفاع عن فلسطين الجريحة، كانت الأسلحة تخطئ الهدف فتقتل جنودهم هم، وليس جنود الاحتلال...خيانتهم لمحكوميهم كانت عارًا فوق عار!

ربما شعور المرء بالدونية وعدم الاستحقاق يدفعه للدناءة حتى لو كان حاكم في موقع قوة، وهذا ما أكده ضمنيا الرئيس السابق محمد نجيب في مذكراته في كتابه كنت رئيسًا لمصر، حين روى عن شعوره بالخزي والمرارة لأنه تسبب في عزل الملك وانقلاب مملوكيه عليه، في حين أنه حكم من بعد الملك شهرين فقط ليسلم حكمه رغم أنفه لعصابة الضباط الأحرار، والذين كانوا في رأيه ثلة من الأوغاد، سرقوا ونهبوا وحكموا ثم خرجوا للناس يتشدقون بالفضيلة والورع، بينما هم عذبوا الفضيلة وضربوا الورع في مقتل في حقيقة الأمر...

وذكر محمد نجيب أن زعيم الضباط الأحرار وقتها كان مزدوج الهوية، له اسمين مختلفين ونشاطين مختلفين بين مجموعتين لهما نشاط سياسي ساعد في عزل الملك...عاش محمد نجيب سجين بيته حتى مات لأنه كان تحت الإقامة الجبرية، وقُتل اثنين من أولاده في حوادث ملفقة، أما عن ابنه الثالث فاخفي هويته وعاش يعمل سائق سيارة أجرة لينجو...

من المضحك المبكي، أن الدولة الغاشمة كانت بارعة في تجنيد الجواسيس وزرعهم ببراعة متقنة في حكومات الدول المعادية، فيصير المجندين في مواقع قوة ويخدمون مصالح إسرائيل دون الترميز إليهم أو حتى اكتشافهم مثل الجاسوس إيلي كوهين الذي صار وزيرا للدفاع السوري، وهو في حقيقة الأمر يعمل لصالح الموساد.

لما نقرأ أنه قتل بتهمة الخيانة، تشعر أن في الماضي كانت الخيانة مكروهة ومعاقب عليها ومازال الناس يرونها خيانة ويزدردون مرتكبها، أما الآن فنحن نعيش سنوات خدعات، نكافئ فيها الخونة علي خيانتهم، وتعطي الدول العظمي مددًا وزادًا لقتلة الأطفال ولصوص الأراضين كي يدافعوا عن أنفسهم، بينما تُسد الأبواب أمام أعين الجائع المكلوم، ويُمنع الحديث عن الظلم، وتكمم الأفواه، وتقطع الأرزاق، ويمنع النشر والبث عن الحقيقة، حتي صرنا تنتفس الكذب ونستنشق الضلال وأصبح هذا عاديا رغما عنا...لله الأمر من قبل ومن بعد..

مازالت الجماهير تخرج للتظاهر، ومازال علم فلسطين الجريحة يرفرف في مشارق الأرض ومغاربها، ومازلنا نرسل خطابات ونقاطع وندعو لهم، ألا إن نصر الله قريب...