بنفسج

سيلين.. معجزة البقاء من تحت الركام

الأحد 25 مايو

أطفال غزة الناجون من الحرب
أطفال غزة الناجون من الحرب

لم تكن ليلة الثلاثاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 ليلةً عادية في حياة عائلة دبابش؛ كانت جبرًا من الله لخواطرهم، وأمانًا لهم بعد خوف، إذ استطاعوا للمرة الأولى الحديث مع ابنتهم "حنين" بعد انقطاع الاتصالات لفترة طويلة، نتيجة الحرب الطاحنة على غزة. تحدثت حنين معهم جميعًا، واحدًا تلو الآخر، اطمأنوا عليها، وأطفأوا شيئًا من شوقهم، وتواعدوا على الاجتماع غدًا على مائدة الغداء. لكن الغد لم يأتِ كما خططوا له؛ جاء ثقيلًا، يقطع الأنفاس، ويُلهب المدامع، يليقُ بيوم وداعٍ قاسٍ لا بلقاءٍ دائم.

فجرًا، ومع صوت الأذان، هزّ المنطقة انفجارٌ ضخم، كان القصف قريبًا جدًا، وبسبب خطورة الوضع الأمني لم تتمكن عائلة دبابش من الخروج لمعرفة الموقع المستهدف بجوارهم. لم تمضِ ساعتان حتى جاء الخبر كالصاعقة: إنه المكان الذي تسكن فيه "حنين" مع عائلتها وأهل زوجها، وقد سُوي بالأرض. لكن أين من كانوا فيه؟ ألم يكن لنا موعد للّقاء بهم؟

حين قتلت العائلة

أطفال غزة الناجون من الحرب

توجّه عبد الرحمن، شقيق حنين مع والده إلى المكان فورًا، دون إخبار والدته وأخواته. بدأت الجثامين بالظهور، جثةً تلو الأخرى. كانت أختهم أول من تعرفوا على جثمانها، غطاها الجيران بقطعة قماش. زوجها وطفلاها أيضًا، وقد وُجد ابنها "وليد" برأسٍ ملفوف من إصابة قاتلة، أما الطفلة "إيلين" فانتُشلت لاحقًا، وكان من الصعب التعرف على زوجها بسبب تهتك رأسه.

وسط هذا الركام، ظهر صوت خافت، أنينٌ ضعيف، لكنه حمل أملًا بوجود ناجٍ بمعجزة. إنها "سيلين".. لا تزال تتنفس، إنها على قيد الحياة. سيلين، ذات العشرة أشهر، تحاول التشبث بالحياة، بعد أن دُفنت تحت الأنقاض، وسقطت من الطابق الأول أرضًا وانهالت عليها خزانات المياه التي انفجرت بفعل القصف، فغمرتها المياه والركام لساعتين. كان الجميع يسيرون فوق الركام، دون أن يعلموا أن تحت أقدامهم حياة صغيرة تحاول النجاة.

صمتَ الجميع للحظة، إذ بدا صوت الأنين واضحًا، فاقتربوا من مصدره، وبدأوا الحفر بأيديهم فقط لانعدام معدات الإنقاذ. كان الأمل يتزايد في عيونهم، وأخيرًا، وبعد لحظات عصيبة، عثروا عليها. كانت مبللة، مختنقة، مرتجفة، ومتجمدة من البرد، لم تستطع الصراخ، كانت تئنّ بألم يفوق جسدها الغض.
 

نجاة "سيلين

أطفال غزة الناجون من الحرب

كبّر الجميع، وحملوها راكضين إلى نقطة طبية بدائية داخل مدرسة للنازحين، علّهم يمنحونها يد النجاة. لكن حالتها كانت أصعب من أن تُسعف إسعافًا أوليًا، فتم نقلها إلى مستشفى الأهلي المعمداني. أظهر الفحص إصابتها بكسر كامل في الفخذ الأيسر، وتجمع دموي في الرأس نتيجة السقوط. بدأت سيلين رحلتها مع الألم، في ما دُفنت عائلتها في اليوم ذاته، وفي اليوم الثالث من الهدنة، نُقلت الجثامين من المقبرة المؤقتة إلى مثواها الأخير. وسيلين، وحدها، تحاول فهم ما يجري، وتبحث عن صدر أمها الذي اعتادت عليه.


اقرأ أيضًا: زهراء شاهين: "طفلتي مسك أنقذتني من موت محتوم


آية، شقيقة حنين ورفيقة تفاصيلها، عشرينية وجدت نفسها أمًا بالنيابة دون تخطيط، لطفلةٍ صغيرة انتُزعت من حضن عائلتها، لتنتقل إلى حضنها فجأة. وفي تلك اللحظة قررت آية أن تكون بلسمًا لقلب سيلين. وعن أول مرة حملت فيها آية سيلين، تقول: "أول مرة حملتها كانت في لحظة قصفٍ شديد. كنت أهرب منها سابقًا لأنها لا تترك حضن أمها، لكن حين رأيتها وحدها، مجروحة، وليس لها أحد، أمسكتها، ومن يومها لم ولن أتركها".

مرت الأيام الأولى بصعوبة كبيرة؛ سيلين لا تتقبل الحليب الصناعي، ولا المسكنات. كان البكاء المتواصل وسيلتها للتعبير عن ألمها وشوقها. إنها تبحث عن حضن والدتها الذي اعتادت عليه. وكان الحزن في قلب آية يتضاعف، وتقول: "هل سأستطيع التخفيف عنها؟". لكن مع مرور الأيام، وكأن الله وضع فيّ القدرة على ذلك.

"ماما آية"

أطفال غزة الناجون من الحرب

وعن أصعب المواقف التي مرت على آية، كان اليوم الذي نطقت فيه سيلين كلمة "ماما". لم تنطقها لأمها التي كانت تنتظرها بكل حب واهتمام، بل سمعت الأطفال يقولونها، فقلدتهم وقالت لها "ماما". الطفلة التي نسيت أن تمشي، لم يكن ألمها نفسيًا فقط، بل كانت تعاني من شلل مؤقت بسبب الكسر. خضعت لجبيرة كاملة للحوض والفخذين لأكثر من ثلاثة أشهر. لم يكن هناك علاج طبيعي متوافر في القطاع، فاعتمدوا على كمادات الماء البارد، والتي كان من الشاق الحصول عليها.

بعد سبعة أشهر، بدأت سيلين تخطو خطواتها الأولى من جديد، لكنها غير متزنة، لوجود ضعف في قدم دون الأخرى، وهو ما يحتاج إلى إعادة تأهيل، وبيئة صحية، ورعاية طويلة الأمد. اليوم، تكبر سيلين بين خالاتها وجدّيها، لكنها لا تملك أمًّا تناديها، ولا أبًا يحملها على كتفيه. تبحث عن ملامحهم في الصور، وتردّد أسماءً لا تعرف أصحابها.


اقرأ أيضًا: سها الخالدي: كفيلة الأيتام أبناء وأحفادًا


"بدّناش كتير، بس بدنا أمان، وراحة بال، بدنا نربي أطفالنا بدون حرب، بدون فقد، وبدون خوف من الفقد المفجع، والمتكرر"، هذا ما تتمناه آية لحياتها مع سيلين. تكبر سيلين في حربٍ لم تتوقف، يُحاصرها الخوف مع كل صوت قصفٍ إسرائيلي، يعيدها إلى نقطة البداية الموجعة. وكلما تجاوزت تلك اللحظة وظنت أنها نجت، تعود لتطل برأسها، وكأن القدر وضع سيلين وأطفال غزة في جحيمٍ لا يتوقف.

سيلين ليست مجرد ناجية، بل هي شاهد صغير على جريمة كبيرة. إنها المعجزة التي خرجت من بين الشهداء، والذاكرة الحيّة التي تقول: رغم الركام، لا زلنا هنا، نعيش، ونحب، ونكافح... إلى أن يشاء الله.