بنفسج

زهراء شاهين: "طفلتي مسك أنقذتني من موت محتوم

الجمعة 25 ابريل

لطالما تساءلت ما هو شعور المرء وهو يودع الدنيا لآخر مرة؟ كيف ينظر في عين الموت وينتظره ليخطفه؟ ما هو شكل الألم الذي يظل ندبة عالقة على جدار القلب؟ هل أستطع أن أعيش ألم الفقد دون أن أفقد عقلي؟ باغتتها الأسئلة دفعة واحدة وها الإجابات تأتيها تحت ركام المنزل وهي حية ترزق، مصابة بحروق أكلت ملابسها بالكامل وتصل جسدها وتحرقه بالكامل، تسمع أنين طفلتها، وتشتم رائحة الأشلاء والدماء للعائلة التي احتضنتها منذ أول يوم زواج بابنهم، تقاتل جروحها وحروقها، وتفكر في مصير البقية، فيخرجها من أفكارها الجدار الذي يحاول المنقذين إنقاذها من تحته وهو ينهال عليها.

نستضيف في بنفسج زهراء شاهين، التي نجت بمعجزة رفقة طفلتيها مسك وماسة، لتروي عن استشهاد زوجها وعائلته بالكامل، 9 أشخاص قُتلوا دفعة واحدة، وتعيش هي مع صدمتها بفقدان العائلة الأحن والأنقي كما تسميهم، تخبرنا عن هول الإصابة التي حلت بها وبطفلتها الصغيرة، وعن حروقها المطبوعة بجسدها ولم تزل.

قُصف البيت

inbound549476375646978216.jpg

في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعند الساعة التاسعة والنصف مساء وبينما الطائرات تحلق في السماء، وتقصف كل شيء بلا استثناء، كانت زهراء تدعو الله بالستر فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليه، وفجأة وجدت نفسها في باطن الأرض تعلوها طبقات الباطون، تقول لبنفسج: "صليت العشاء وإذ بزوجي يناديني لوالده، ركضت سريعًا نحوه فطلب مني المسامحة وعدم الخوف من الحرب، حينها لم يغب عني وجه عمي وهو يقول "سامحيني"، جلست في زاوية المنزل أحتضن ابنتي ماسة وزوجي بين يديه مسك. أتى بساندويش وأصر عليَّ أن أتناوله، فجأة عمت غمامة سوداء لم أر بعدها ففهمت فورًا أن الصاروخ طالنا ليقتلنا".

وبينما هي تجاهد لأخذ أنفاسها الأخيرة، سمعت طفلتها ماسة تبكي، فعلا صوتها تطلب المساعدة، لكن لا مجيب، وكلما تحركت أو تحدثت تتناثر الرمال في فمها، فجأة صمتت ماسة، وصارت هي تتحرك أكثر، ليشعر بحركتها المنقذين، واستجابوا لها واتجهوا نحوها.

تضيف: "كنت معلقة بين حائط وقع عليَّ مرتكزًا على قطع خشبية من أثاث المنزل وأنا تحته، أتوا بمنشار وتدريجيًا بدأوا بقص الخشب حتى لا يسقط الجدار فوقي مباشرة فيقتلني، وبعد أكثر من ساعة نجحوا في إخراجي، ليأخذوني نحو مشفى الشفاء لمعالجتي من الكسور والحروق التي حرقت جسدي بأكمله".

عائلة زوجي مسحت من السجل المدني

inbound6623566272610547747.jpg

تفرقت زهراء عن طفلتيها ف مسك في مشفى العودة وماسة في المشفى الإندونيسي في العناية المركزة مصابة بنزيف داخلي، وهي في مشفى الشفاء، وزوجها وباقي العائلة تحولوا إلى أشلاء، تكمل لبنفسج: "لم يسمعني المسعفين وأنا أنادي من تحت الركام إلا من خلال بكاء مسك التي وجدوها فورًا تصرخ وتشير للأسفل "بدي ماما"، فكانت هي سبب نجاتي بعد الله، لولاها لما سمعني أحد وبقيت أناجي الله وأموت بالتدريج تحت الجدار الإسمنتي".

لاحقًا، اجتمعت الأم بطفلتيها في مشفى الشفاء، حتى حوصرت المشفى وعاشت القيامة ذاتها، تردف: "لم يكن هناك دواء ولا طعام، ونحن تحت القصف العنيف محاصرين، وابنتي مسك تبكي من شدة جوعها وأنا لا أعلم ما الذي علي أن أفعله، وماسة كانت رضيعة عمرها 39 يومًا، وأنا جروحي من الدرجة الرابعة لا تطيب، والكسور في كل أجزاء جسدي، ومسؤولة من طفلتين".

بعد ليالي من الرعب داهم الجيش المشفى، ليجبر زهراء وابنتيها النزوح نحو الجنوب، وصلت الحاجز سيرًا على الأقدام، فأطلق الجنود النيران عليهم لتعود إلى الشمال مرة أخرى، وتعيش القيامة على الأرض، احتمت بمدرسة دون طعام ولا ملابس ولا أمنية تخطر لها سوى أنها تريد الراحة فحسب.

  بيت العز يا بيتنا

inbound5095485792082329874.jpg

تقطع زهراء حديثها عن ليالي الموت المحقق وتعود سريعًا إلى يوم أن رأت مصطفى، فقالت هذا هو الذي أريده رفيقًا أبديًا، ويتوج الحب بطفلتين ماسة ومسك، تقول: "لقد أكرمني الله بزوج حنون، وعائلة ثانية لي تدللني، فلم أشعر يومًا بالغربة وأنا بينهم، غيابهم دفعة واحدة دمر نفسيتي، حتى الوادع الأخير لم أحظ به، ولكن تظل تتراءي لي وجوههم وهم يغنون لي في يوم ميلادي الأخير "سنة حلوة يا زوزو"، كانوا بارعين في إبهاري وإسعادي رفقة زوجي الذي لم أر منه إلا كل خير".

تحدثت عنهم بابتسامة تتخالط بدموعها، تقول عن حماها الأب الروحي لها، "كان رجلًا حنونًا يقول لي إنتِ ابنتي وليس زوجة ابني فحسب، نجلس سويًا بالساعات ولا أمل من صحبته، أذكره في صباحات يوم الجمعة إذ كان يصر على وجودي معهم على طعام الغذاء، نطبخ سويًا، ويروي لي الحكايات القديمة، من يرانا كان يظن أنني ابنته بحق".

تكمل عن حماتها: "تحرص على طبخ الطعام الذي أحب، وتضع لي حصتي جانبًا، رافقتني في ولادتي لمسك 9 أيام كاملة بقيت بالمشفى معي ترعاني وكأنها أمي، وترعى ابنتى مسك، فقد كانت حنونة لأقصى حد، يوم السبت الأخير لها كانت تنتظر أن ترى مسك بفستان اشترته لها لنحضر مناسبة خطوبة عمها ولكن لم يكتب لنا نصيب أن ترتديه الصغيرة لتلتقط صورة مع جدتها".


اقرأ أيضًا: دعاء أبو شعبان: المجزرة التي لا تموت وهذه مشاهدها الحية


أما عن أعمام بناتها، أكبرهم يوسف وكان محبًا للأطفال، يجلب ما طاب لمسك، الثاني إسماعيل كان سيخطب في شهر أكتوبر للفتاة التي أحبها، وجهز شقته لأجلها، لكنه رحل وهي أيضًا أستشهدت رفقة كل عائلتها، أما محمد فكان من أوائل دفعته تخصص اقتصاد، لقب بفارس الفجر، لشدة التزامه بصلاة الفجر في المسجد.

تضيف زهراء: "كنت أقول دومًا يا لحظ بناتي بالعمات، لكن شاء الله أن يمتن دفعة واحدة، فهذه هديل المتفوقة في جامعتها، كانت تحرص على تدليل طفلتي مسك، تجلب الهدايا لها، ولمى الصغيرة وآخر العنقود ما زالت بالمدرسة، تشاكسها مسك بتقطيع كتبها، فتبتسم هي، حضرنا حفل تخرجها قبل الحرب بأسبوع من دورة اللغة الإنجليزية وكنا سعداء بها، نحلم أن نراها طبيبة".

ثلاث إصابات وشهيد

inbound6479514935430660610.jpg

توقفت زهراء عن استذكار العائلة السعيدة التي قُتلت بضغطة زر من سلاح الجو الإسرائيلي، عندما احتضنتها طفلتها ماسة لتقول لها "وين بابا.. أنا بدي بابا زي صحباتي بالروضة كلهم الهم بابا"، فتعانقها وتبكي وتقول: "استشهد وخلص راح الجنة"، لتصر الصغيرة على الذهاب عنده الآن.

تكمل زهراء: "ليس ماسة فحسب من تفتقد والدها بل مسك أيضًا إذ كان عمرها 38 يومًا حين استُشهد لكنها تتساءل عنه دائمًا، وأنا لا أنفك عن تعريفهم عليه بالصور، أذكر آخر مرة ركبت ماسة باص الروضة وقالت "رني على بابا احكيلو إني رحت الروضة اليوم".


اقرأ أيضًا: ضحى ناجي: في بيتي فقد وشهيدان


لا تعلم الأم الوحيدة والمعيلة لطفلتين كيف ستتدبر أمورها بالمستقبل، في غياب الأب، فالحمل عليها ثقيل جدًا، بعد عناء في غزة مع الإصابة حولت زهراء إلى مشفى في القاهرة لإكمال علاجها، فقضت رفقة طفلتيها أصعب 9 شهور من العلاج المكثف، فبرأت كسورها، ولكن جرح القلب لا يبرأ مهما حاولت إخماد نيرانه.
تختم حديثها: "بقيت الحروق في جسدي لم تزا، وها أنا أحارب في مطحنة الحياة لأعيش بناتي حياة هادئة كريمة، وأسأل الله أن يكن نعم البنات يشبهن أبيهن في الشكل والطباع.. رحمه الله وهو وعائلته".