ثوان معدودة وأصبحت تحت الركام، لا تعي ما الذي حدث، حتى فتحت عينيها لتجد والدتها ممسكة بابنتها الرضيعة والدماء تغمرهما، فحاولت إنقاذهما لكنها تحت الكتل الإسمنتية، حتى جاءت شقيقتها ترفع الركام بنفسها عن والدتها وعنها، ومن هنا انتهى وقت الهدوء ودقت أجراس الحزن في البيت ونفوس أصحابه ممن عاشوا ليشهدوا إبادة عائلة كاملة في ليلة واحدة.
دعاء أبو شعبان واحدة من ضحايا حرب الإبادة الجماعية، فقدت ابنتها مرح ووالدتها ووالدها وشقيقها أحمد وعائلته، وأولاد شقيقتها الثلاثة في آن واحد ، فلم ينج إلا هي وابنتيها آيار وجوري، وشقيقتها وابنها.
استهداف العائلة
تبدأ الحديث بتعريف نفسها: "أنا دعاء أبو شعبان معلمة مواد اجتماعية، متزوجة ولدي ثلاث بنات أكبرهن جوري 7 سنوات، ومرح 3 سنوات، وآيار عامان، كانت لدي حياة هادئة مستقرة، أعيش في بيت في حي الزيتون في مدينة غزة، انقلبت حياتي عندما هدد الاحتلال المربع السكني الذي نقطن به منذ 7 أكتوبر، فخرجت على بيت عائلتي، وزوجي ذهب حيث تقطن عائلته".
بعد أيام، وتحديدًا في اليوم العاشر للحرب في 16 أكتوبر، كانت في البيت دعاء وأطفالها الثلاثة، وشقيقتها وأطفالها الأربعة، وشقيقها أحمد وزوجته وأطفالهما الخمسة، إضافة إلى والدها ووالدتها، يومها تناولوا طعام الغذاء وجلسوا سويًا في صالون البيت، وفجأة سمعت دعاء صوت شقيقها أحمد ينادي، كان الفاصل بين صوته والانفصال عن العالم ثوان معدودة.
تقول لبنفسج: "فتحت عيني على أمي وهي مستلقية على بطنها متمسكة بابنتي آيار 4 شهور، تنزف وتأن وتطلب مني إخراجها من تحت الركام، وإذ بأختي تاتي ترفع عنا الحجارة وتخرجنا بأعجوبة، وفي المقابل كانت ابنتي جوري تنزف من وجهها فاقدة الوعي".
اقرأ أيضًا: سوار عن زوجها وسيم أبو شعبان: المرافق الأمين وبطل عملية نحال عوز
وصلت دعاء المشفى لتجد ابنتها الثانية الرضيعة آيار وكتلة من الدماء على رأسها، ظنت أن دماغها قد خرج، ولكن الطبيب أخبرها أنها بخير، ركضت في أروقة مشفى الشفاء تبحث عن والديها وباقي العائلة ليخبروها أن الجميع شهداء، ولم ينج إلا هي وشقيقتها وابنها وابنتيها، أما جثث الأهل فأخرجت جميعها إلا شقيقها أحمد وابنتها مرح وابنة أختها، فقد وجدوهم بعد 5 أيام من الحادثة.
كانت دعاء مغيبة تمشي في المشفى تشعر أنها على وشك الجنون، الحروق قد شوهتها، ولا تأبه، تسأل كل من في طريقها عن ابنتها مرح، أين مرح؟ هل هي شهيدة؟هل أخرجوها من تحت الأنقاض؟ وملامح الناس تجيبها أن الصغيرة شهيدة. وفي المقابل كانت ابنتها الثانية جوري في العمليات، يقطبون جبينها الذي ينزف، وتعاني من كسر في الحوض وتحتاج عملية عاجلة.
علاج تحت الموت
كان الوضع مخيفًا في مشفى الشفاء في غزة، القصف يشتد، ومن هناك يترقب اجتياح المشفى، تضيف دعاء: "جلست في غرفة في المشفى، ابنتي مصابة قبالتي وشقيقتي مصابة بكسور وأرجلها في الجبص، والطعام يوشك على الانقطاع، قصفوا مبنى الولادة وكان القصف مروعًا، ثم جاءنا الطبيب يطلب منا توقيع سفر علاج في الخارج، جهزنا أنفسنا وصعدنا إلى الإسعاف وإذ بالطيران يقصف بوابة الشفاء علينا فأخرجونا منها، عدنا إلى الغرفة ولم نسافر، وعندما قصفوا جزءًا جزءًا من المشفى بعدها ألححت على زوجي أن نذهب إلى الجنوب، لأن وضع ابنتي دقيقًا ويحتاج متابعة وعناية".
تكمل: "وضعنا جوري على كرسي متحرك وكان ممنوعًا عليها الجلوس، وانطلقنا مشيًا على الأقدام من مجمع الشفاء الطبي حتى حاجز نتساريم، الدبابات تمشي أمامنا وهذا ما أرعبني، وبنادق الجيش مصوبة علينا مباشرة وابنتي تصرخ من الوجع تريد أن تستلقي، وطفلتي الرضيعة تصرخ وزوجي معي يحملها وشنطة الأمتعة، طلبوا من الرجال أن يصطفوا أمامنا ووضع كل ما يحملونه، كنت أرى الشباب يتقدمون وينادي الجندي على أحدهم، يأمره بخلع ملابسه والجثو على ركبتيه، لقد أطلقوا النار على أحد الشباب أمامنا، استشهد عدد كبير بنفس الطريقة".
اقرأ أيضًا: روان الكباريتي: عن جوامع الخير في قلب أمي الشهيدة
يُسر لدعاء وزوجها وطفلتيها أن يصلوا إلى مدينة خانيونس جنوبي غزة، وطفلتها جوري تكاد تفقد وعيها من شد الألم، تردف: "بعد معاناة وصلنا إلى المشفى الأوروبي، ولكن لا متسع لنا كل مكان مليء بالإصابات والشهداء، والنازحين، بعد أيام انتهينا من إجراءات تحويلة السفر للعلاج، لنسافر أنا وجوري وتمنع ابنتي الرضيعة آيار من السفر معنا، لاضطر لتركها مع والدها في غزة".
وصلت دعاء إلى مشفى العريش وبقيت 5 أيام، أجرت خلالهما عملية، ثم وضعت على قائمة المسافرين إلى تركيا لتكملة العلاج، في تلك الفترة كانت دعاء وحدها ولا تتكلم مع أحد سوى الأطباء.
ساءت نفسيتها وهي تعبر المطار التركي، تمنت كثيرًا أن تسافر إلى تركيا ولكن المشهد الذي تخيلته كان برفقة زوجها يدًا بيد وبناتها جميعن معها يبتسمن. ولكن الواقع كان دخولها بوجه شاحب وجسد هزيل.
تقول: "لم أستطع الحديث مع زوجي لأكثر من أسبوع أو حتى الاطمئنان على ابنتي الرضيعة فخطوط الاتصال عندهم مقطوعة، حتى جائتني صدمة جديدة "لقد قصفوا المنزل على رؤوس إخوانك الباقين واستشهدوا وأبناءهم"، عرفت متأخرة عندما استطعت الوصول لأحدهم، لقد تلقيت الخبر كلمة كلمة من شدة صعوبة الاتصال وكان بين الكلمة والأخرى ساعات، فرددت اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".
من الذاكرة الموجوعة
على الرغم من مرور عام ونيف على الاستهداف، ما زالت دعاء تذكر حين شاهدت رأس ابنتها آيار مغمورًا بالدم، وأخبروها هذه دماء والدتك، ويوم اصطحبوها لرؤية جوري وهي تحت الأجهزة الطبية، فدخلت لتجد والدتها على السرير المقابل يودعها الأحبة، لتتوجه نحوها تودعها الوادع الأخير.
تستذكر دعاء والدها الرجل المثقف الفذ كما تصفه على الدوام، وتقول: "بابا رجل قارئ ذو عقل فذ ملتزم وكاتب، رجل نادر بهالزمن، لا يجلس أحد معه إلا يخرج مبهورًا من دقة معلوماته، عمره 78 عامًا، جلسته ثمينة، كنت أذهب لزيارة أهلي في الصباح الباكر، لأجل أن أجلس معه أكبر وقت ممكن، في الحرب أوصانا أن لا ننزح إلى الجنوب أبدًا ولنمت في الأرض،وحدث ما شاء، إذ مات صامدًا مرابطًا في بيته".
أما عن والدتها فهي مشرفة قرآن كريم في دار الكتاب والسنة، تقولدعاء: " كانت أمي تحمل مصحفها وتقرأ سورة البقرة، لم أرَ في حياتي امرأة بحرص أمي على قراءة هذه السورة، كنا نعرف طقوسها أثناء القراءة، فلا سلام لا كلام حتى تنتهي لترانا، كانت سيدة متقنة لعملها تجاهد لأجل تخريج حفاظ كتاب الله، ولا أنسى فرحتها بيوم تخريج صفوة الحفّاظ الساردين للقرآن، كانت أول من سجّل معهم بالخروج إلى العمرة، سعادتها بتلك الأيام لم تكن توصف".
الشهيدة مرح التي تزينت للشهادة
يوم الاستهداف، أصرت مرح على والدتها أن تحممها، ولكن دعاء رفضت لأنه لا يوجد إمكانية لتسخين المياه، فألحت الطفلة كثيرًا، فجلبت لها جدتها ماء مسخنًا وقالت لدعاء: "خلص نفسها تتحمم حمميها معلش بنجيب ميا". وبالفعل استحمت مرح وارتدت بجامتها الحمراء، وجلبت مكياج والدتها وصارت تردد: "أنا اليوم أميرة يا ماما". رن والدها ليحادثها فقالت: يا ماما احكيلو الأميرة بتتزوق".
كانت مرح متلهفة لدخول الروضة، كان عامًا واحدًا يفصلها عن الالتحاق فيها، تدعو الله دومًا: "يارب سجلني بالروضة". وحينما استشهدت تذكرت دعاء دعوة صغيرتها فأيقنت أن الله استجاب دعاءها وأخذها إلى رياض الجنة.
في مرة طلبت دعاء من صغيرتها جوري 5 أعوام التي استقرت حالتها في تركيا بعد علاج طويل أن ترسم العائلة، تقول: "كانت النتيجة مؤلمة، فقد رسمت صغيرتي أختها مرح وهي بالتابوت، ووضعتها في منتصف الصورة، وشقيقتها آيار مع والدها، فسألتها عن من هم بجانب التابوت، فردت:"يا ماما أنا رسمت آيار بالكفولة جنب بابا، صح إنتي هيك تركتيها بغزة قبل ما سافرنا للعلاج".
طوال العام ودعاء تحلم باستشهاد آيار التي تركتها في غزة، تستيقظ على الكوابيس، لم ترها لمدة شهر بعد سفرها لانقطاع الاتصالات آنذاك، تضيف: "تفاجأت بعد فترة أنها بدأت تحكي، ويحدثوني عن جرأتها ومواقفها، كان زوجي يرسل لي الصور باستمرار، وحين فتحت فيديو لتتحدث معي للمرة الأولى لم تهتم آيار أبدًا في الحديث معي، وفي كل اتصال لديها فتور تجاهي وهذا أمر أزعجني".
ومع أن الظروف كانت لا تسير على ما يرام، إلا أن دعاء وقفت قبالة حزنها وواجهته، وأكملت دراسة تخصصها الثاني وهي الآن على عتبات التخرج، ودرست المستوى الأول والثاني من اللغة التركية واجتازتهما بنجاح، ووطدت علاقتها مع ذوي الجرحي في تركيا، وبدأت تعطيهم دوارت في تحسين تلاوة القرآن الكريم.