بنفسج

عزيز سلام: عن ثلاثة لا يطيب لي العيش بعدهم

السبت 08 فبراير

قصص شهداء من غزة
قصص شهداء من غزة

عن شذى الصغيرة المدللة، وحيدة العائلة من الإناث، الأخت المُقربّة والأم لثلاثة أطفال، وعن أحمد الأخ المثالي وزوجته ولاء الذين حرمهما الاحتلال من أن يكونا أبًا وأمًا، عن ثلاثة لا يطيب العيش بعدهم، يحدثنا اليوم ضيفنا عزيز سلام، عن العائلة التي مزقها الاحتلال شمالًا وجنوبًا، فُحرمت من بعضها لأشهر طويلة من الحرب، منّت نفسها بلقاء قريب، ولكن خطوات الموت كانت أسرع في جنوب القطاع.  قتل الاحتلال الأحبة الثلاثة، ومُنع عزيز وأمه من وداع الشهداء، فمن يرابط في شمال غزة لا يمكنه  عبور حاجز نتساريم إلى جنوبه، أما شذى فلم يبقى من جثتها شيئًا، تفاصيل سير الشهداء الثلاثة يرويها ضيفنا في السطور التالية. 

عزيز سلام: عن استشهاد أحمد وولاء وشذى 

عزيز سلام يتحدث عن استشهاد أخوه أحمد وزوجته ولاء الإفرنجي وأخته شذى .jpg

في 25 ديسمبر/كانون الأول 2024 وفي تمام الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، استيقظ شقيق الأخوين عزيز وأحمد  الأكبر على كابوس مفاده أن أحد إخوته قد استشهد، خاف كثيرًا وحاول إخبار نفسه أن هذا مجرد حلم، حاربه النوم فأمسك هاتفه المحمول يتصفح الأخبار، وإذ بالخبر: "استهداف منزل السيد جمعة الإفرنجي في النصيرات قرب أبراج عين جالوت".

يقول عزيز لبنفسج: "فور ورود الخبر توتر أخي كثيرًا، بعدها بدقيقة قرأ خبر يقول "انتشال الشهيدة ولاء جمعة الإفرنجي من المنزل المستهدف"، انهار لأنه يعلم أن أحمد بالعادة لا يُفارق زوجته، وعلم علم اليقين أن أحمد قد استشهد أيضًا، فجاءت الصدمة بعد دقيقتين "استشهاد الشاب أحمد سعيد سلّام زوج ولاء الإفرنجي"، وهنا كانت الصدمة الكبرى، جاء أخي وأخبرنا أنا وأمي بذلك ولم يخطر بباله من شدة الصدمة أن شذى كانت في نفس المكان عند أحمد وولاء، فسألته أمي وماذا عن شذى؟ لكن لا جواب".

في صباح اليوم التالي أقيم لأحمد وزوجته ولاء جنازة، وودعهم الأحبة، لكن شذى شقيقة عزيز ما زالت مفقودة، وبينما هناك في جنوب غزة يحاولون البحث عن جثمانها كان هو ووالدته قد أبرحهم الحزن، يكمل عزيز: "لم نستوعب كيف للمرء أن يموت منصهرًا لا وجود لجثة له، قمنا بالتواصل مع الجهات المعنية لإيجاد جثتها ولكن دون أي نتيجة، اضطررت للانتظار حتى تنتهي الحرب لأذهب بنفسي للبحث عنها ولكني لم أجدها أيضًا".

تابع عزيز الأخبار:"  اسمعتُ في الأخبار أن الاحتلال يستخدم قنابل متفجرة ينتج عنها درجة حرارة 6000 - 9000 درجة مئوية تصهر كل ما هو في مركز الإنفجار، فرجحتُ أن يكون البيت قد قصف بإحدى هذه المتفجرات، وتساءلتُ كيف لي أن أصدق يا شذى أن جسدك الصغير قد تبخر في لحظةٍ واحدة وأن لا قبر لك أزروه كلما أتعبتني الحياة؟ كيف لي أن أستوعب أن دفء حضنك وابتسامتك التي كانت تضيء حياتنا قد أصبحت ذكرى تُروى؟".


شذى: بلا شاهد ولا قبر!

تبخر جثث الشهداء في غزة .jpg

يحكي عزيز عن شذى آخر العنقود والأخت الوحيدة بين خمسة شباب، فيقول: "كانت شذى أختي وصديقتي وحبيبتي، والأقرب لقلبي وكنتُ الأقرب لقلبها، نتحدث إلى بعضنا كل دقيقة عبر تطبيق الواتساب، ودائمًا تهاتفني لزيارتها،  فأقول لها سأرسل أمي فقط أنا اليوم مشغول، فتقول لي أرسلها وحاول أن تنهي عملك مبكرًا كي نلتقي، وكنتُ أحاول كثيرًا أن أجد وقتًا لها في يومي".

حرمت الحرب الإسرائيلية كل من شذى وعزيز من لقاءتهما الحنونة، فلم يتمكن من رؤيتها طوال الحرب، فهو ظل في شمال غزة وهي نزحت مع أولادها الثلاثة رفقة شقيقها أحمد إلى بيت أهل زوجته في المحافظة الوسطى وتحديدًا النصيرات، وهذا فاقم ألم عزيز، فعقب: "لم أكن أتصور أن الحرب ستفصلني عن الأقرب لقلبي إلى هذا الحد، وأن أعيش هذه المعاناة دون أن أعرف ماذا يحدث لها".

لم يتوقف عزيز عن محادثة شذى طيلة الحرب، ليبكيان معًا، ويضحكان معًا، تحدثه في كل اتصال عن أمل اللقاء، يكمل عزيز لبنفسج: "أخبرتني في آخر أيامها أنها تريد أن تحتضن أمي لمدة يوم كامل، كان أملها أن تنتهي الحرب لكي يعيش أبناؤها كما تحب وكما تخطط لهم، كانت تأمل بإعادة بناء منزلها الذي تدمر، لكنها فقدت الأمل حين رأت كل غزة قد تدمرت".

رحلت شذى دون أن تحقق أي من أحلامها، تاركة عزيز يتخبط دونها، يبكيها كل ليلة، وما يهون عليه فراقها أنها تركت إرثًا عظيمًا له مكون من ثلاثة أطفال، توفيق ومحمد وعمر، أكبرهم ثمانِ سنوات وأصغرهم في الخامسة من العمر، يقول عن أبناء شقيقته: "يعرف الصغار الثلاثة أن شذى في الجنة، وتحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم، يعانون من ألم الفراق لكني أحاول قدر المستطاع البقاء بجانبهم، كانت شذى قبل الحرب تقول لأمي: "أمانة يا إمي إذا صارلي إشي إنتي تهتمي بولادي وتربيهم، ما بطمن عليهم إلا معك إنتي وعزيز".

ولاء وأحمد: ارتبطا حياة ومماتًا 

قصص شهداء غزة ولاء الإفرنجي.jpg

اُمتحن عزيز في الأخ والأخت، وبزوجة شقيقه ولاء الذي كان يقول عنها الأخت الروحية له، ففقدهم دفعة واحدة تركوا جرحًا لا يندمل بل يتفاقم أثره بمرور الأيام، يستذكر عزيز مع بنفسج الذكريات الأخيرة مع شقيقه وزوجته، فيقول: "كنا نتحدث عبر  الهاتف كل يوم بعد صلاة المغرب لمدة ساعة متواصلة، نتحدث فيها عن اشتياقنا، وعن أملنا في انتهاء الحرب، ومنذ غيابهم افتقدهم عند ذلك التوقيت، اشتاق لخطط أحمد وولاء للمستقبل، لأملهم أن يصبحا أبًا وأمًا".

في بداية الحرب كانت ولاء تنتظر طفلًا، ولكنها فقدت جنينها من الخوف والرعب الذي عايشته بسبب  الأحزمة النارية التي لا تتوقف، يضيف عزيز: " في التاسع من أكتوبر نزحنا جميعنا إلى شقة أحمد الكائنة في تل الهوا، وفي ذاك اليوم كان القصف شديدًا وشهدنا أول حزام ناري في المنطقة، ومع شدة الخوف أجهضت ولاء حملها الأول، وتكرر الحدث عندما كانوا في النصيرات، حيث بدأت الأحزمة النارية تجتاح الجنوب والوسطى، فأجهضت حملها الثاني، وهنا قررا أن لا ينجبا طفلًا خلال الحرب".

كان أحمد حنونًا على عائلته وتحديدًا والدته، يطمئنها دائمًا بالقول: "أنا موجود.. لا تقلقي". يردف عزيز: "أن أحمد كان يرسل الأموال لوالدته دائمًا، وقبل استشهاده بيومين أرسل لي مالًا وقال لي هذا لك، أخبرته أنني لست بحاجة، فقال لي خذهم واشتري بهم أشياء لك استمتع بهم، فبدأت فعلا بتنفيذ وصيته بعد استشهاده بشهر، فاشتريت كما أراد ما أريده ولكن لم أستمتع كما طلب مني لأنني لا قدرة لي على الاستمتاع بأي شيء دونه".