"دائمًا ما كان يراودني كيف سيكون شكل اليوم الذي سأموت فيه، والوقت هل في وقت صلاة الظهر أم الفجر، أم مظلم في العشاء وهل سيكون ممطرًا أو مُشمسًا؟ كل هذه التفاصيل كانت تراودني والأصعب كان أول لحظةٍ في القبر، فكرة القبر وضمة القبر. علمت بأن القرآن الكريم يدافع عن صاحبه في قبره فكان هذا الدافع الأول للحفظ، حينما كنت في بداية الحفظ وأحفظ سورة البقرة مرت عليّ معلومة بأن سورة البقرة بقيت آخر سورة تدافع عن صاحبها، لم أدّخر جُهدًا وحفظتها في وقتٍ قياسي خوفًا ولعلّي إن مُت أجد من يدافع عني كنت كلما فترت همتي بالحفظ تذكرت الموت".
هذه هي المقدمة التي نبدأ بها عند حوار ساردة لكتاب الله، مقتطف من إجابتها عن سؤال: لماذا قررت حفظه. هذا ما أجابت به أسما ثابت من قرية شقبا، 21 عامًا، والطالبة في جامعة بيرزيت.
يوم الحفظ التامّ

تقول أسما، حالمة في يومها المنتظر عن حفظها لآخر آيات كتاب الله: "كان يوم الخميس أنهيتُ دوامي الجامعيّ متجهة نحو بيتنا، سألت عن أمي، فعلمت أنها ذهبت إلى بيت جدّي! أمي لا تذهب يوم الخميس، كيف تزامن ذهابها مع يوم الخميس! وفي هذا الخميس أيضًا؟ صلّيت العصر مسرعةً وجلست على الكرسيّ أَعُدّ الصفحات المتبقية وأحفظها، وأرسلها لمشرفتي، أذّن المغرب فاستعدّينا للذهاب إلى بيت جدّي سجدت آخر سجدة تلاوة هناك، وسلّمت على خالاتي وجدتي على عجل ودخلت الغرفة ومعي مُصحفي ولا أحد يدري بأن هذا آخر يوم لي في الحفظ وأني سأختم!
وصلت إلى سورة الناس.. النهاية! وأيّ ناس … كل أنواع الناس ستجدهم الذي لا يحفظ والذي يحفظ والملتزم والعاصي وغير المسلم، كل النّاس وأنت دائمًا منهم وحتى إن حفظت فأنت من النّاس ولا تتعالى وترى نفسك أعلى منهم.
سجدتُ سجدة طويلة دعوت فيها كل الدعوات التي كانت في وجداني كل الدعوات التي أجّلتها لذلك اليوم. قرأت دعاء ختم القرآن، لكن اليوم هو دعاء ختم الحفظ، وليس القراءة العادية التي كنت أزهد فيها، القراءة التي كنت أتركها بسبب امتحان أو انشغالات، كان مشهدًا لا يُصدقّ! لا زلت بالغرفة وحدي وخالتي تدق الباب وتقول أين اختفيتِ! لم تجلسي معنا. كنت أنتظر توثيق مشرفتي الأخير لأقوم بتوجيهه على مجموعة العائلة، انتظرت نصف ساعة وأعلنتُ عن ذلك الخبر.
اقرأ أيضًا: حين الزلزلة: يزرع القرآن لا ما يزرعه السلطان
لم أتوقع ردة الفعل تلك.. صدمت أمي والعائلة كلها.. خططنا أنا وتسنيم صديقتي كيف أُبلّغ عائلتي بخبر الحفظ لكن كل تلك الخطط فشلت أمام ذهاب أمي الغير متوقع إلى بيت جدّي، لتكون الخطة كما يريد سبحانه، تاريخ ميلادنا هو تاريخ وقع علينا قصرًا ولم نختره .. لكن تاريخ الختمة تاريخ كتبته بيدي وماء عيني وجهدي وصبري وصبر كل مشرفاتي. لم يكن يومًا عاديًا يومًا جبرني الله سبحانه فعرفت معنى اسمه " الجبّار".
مرت السنة والشهرين كلمح البصر، فيها ذقت أسعد أيامي واكتشفتُ نفسي وعرفتها من خلال الوحي، تبدأ من فاتحة الكتاب إلى الناس. كانت صدفة محضة أثناء تكلمي مع صديقتي وقالت لي " لم لا تحفظين مع ملتقى الأقصى"؟ قلت لها.. فعلًا لِمَ لا.. وتواصلتُ مع قسم التسجيل ثم أصبح لي مشرفة رسمية اسمها "عهد" لنتعاهد القرآن معًا ونسطر لآخر آية، كانت عوني وسندي وشجعتني إذ فترت، وكانت ولا زالت بطلة الرحلة الخاصّة بي، جزاها الله عني خير جزاء.
إن رحلة الحفظ تُعاش لا تكتب لأن الكتابة لا توفيها حقّها، ورحلة الحفظ هي رحلة مليئة بالبركة وتيسيره سبحانه ولطفه والقرآن يبدأ التغيير فيك شيئًا فشيئًا دون أن تشعر، حتى دون أن تفهم كل الكلمات أو تعرف معانيها. إنه كتاب ربنا الكتاب الأعظم وآخر وحيٍ نزل من السماء، يلجمك القرآن عن فعل الكثير من المعاصي ويُثبتك إذ يزيغ الناس.
تزامن الحفظ مع حرب القطاع كان شيئًا عجيبًا إذ أني بدأت أحفظ بعد الحرب بـ٥ أيام، كان أكثر شيء يحفزني على الاستمرارية هو ثبات أهلنا والمستمد من القرآن "تعيطش يا زلمة" و"إحنا مشاريع شهد.اء" والحمد لله يارب .. مستحيل أن تأتي بلحظتها.. الثبات لا يأتي وليد لحظة.. يأتي من بناء سنوات وتربية وأفضل مربٍ هو القرآن، فهمت بأن كتاب غير عادي إنه كتاب "الثبات" وعزمت على أن أكمل هذا الطريق، لم أتخيل يومًا أن أصبح " حافظة" حتى أنني لا أتذكر بأن دعوته سبحانه بهذه الدعوة.
كنت أمشي بالآيات وأنجز الخطة التي تكتبها لي مشرفتي وتمشي الأيام، وأدخل دورات التثبيت وأنا أمشي في طريق لا أعرف نهايته، فلا آمن نفسي أن تُفتن فتحيد عن هذا الطريق، لكن سبحانه الذي يُعين ويسدد، فأيقنت حاجتنا للقرآن ليست رفاهية ولا شيئًا عابرًا أو مؤقتًا إنما احتياجنا له في زمن يعصف فيه الفتنة كحاجتنا للغذاء والماء، كيف يثبت من لا يحفظ القرآن؟ أو حتى يقرؤه؟ ولا يعيش تحت ظلال القرآن العظيم!
القرآن بركة الوقت ونوره

سألنا أسما عن تزامن الحفظ مع الدراسة وإذا كان ثمة عائق أمام الحفظ، فأجابت: "لم يكن عائقًا أمام دراستي أو وقتي أو حياتي، بل كان بركتها ونورها ومرشدها، فهمت بأن القرآن إن وضعته أمام كل شيء رفعك الله ويسّر كل مهامك الثانية، فهمت بأن القرآن الكريم لا يرضى بأن تعطيه فتات وقتك وأوقات فراغك بل جُلّ الوقت الثمين يجب أن يكون له. أتذكر جيدًا اليوم الذي كان عندي اختبار في السور الثلاثة (المائدة، الأنعام، الأعراف).
وكان في اليوم الثاني عندي اختبار مادة تُعتبر من أصعب مواد التخصص، لكني بدأ بمراجعة السور والاستعداد لها وبعد أن تقدمت لاختبار السور بدأت أدرس للمساق والحمد لله الذي وفقني بالاختبارين وحصلت على علامة ممتازة في كليهما، فما زاحم القرآن شيئ إلا باركه وما قدّمه أحد إلا قدمه الله سبحانه في الأشياء التي يسعى لتحقيقها، وفي أول فصلٍ بدأت أحفظ فيه حصلت على " لائحة شرف" والفضل والمنة لله سبحانه.
اقرأ أيضًا: الفقد والتخلي: نماذج من القصص القرآنية والهدي النبوي
في فصلي الأخير وهو الذي أُبلغت فيه يجب أن أختم، كان فيه ١٨ ساعة تشمل مشروع التخرج وقد كنت أثبت الـ٥ أجزاء الثالثة وأمامي ٩ أجزاء حفظ، ولم تعق الختمة تخرجي بل بالعكس زادته بهجة وبركة، كان القرآن صديقي في ذاك الفصل صاحبي الملازم لي كنت لا أدخّر جهدًا لأن أمامي ختمة، كنت أذهب للمصلى أثناء أوقات الفراغ لأحفظ قدر المسُتطاع وفي المواصلات وفي البيت أثناء فراغي.
وكان أجمل صاحب الصاحب الذي لا يخون ويشجعك ويرفعك ويجبرك، إذ يكسرك الناس ويرفعك إذ يضعك الناس، فهمت أن الناس ترى الناس حسب وضعهم ومقامهم فترفع حسب نظرتها هي.. أما الله سبحانه يقبلك بجميع نسخك ويعفو ويغفر ويصفح.. فعلمتُ كيف يكون الأُنس بالله.. بالله وحده.
عن ملتقى الأقصى

حفظتُ مع ملتقى الأقصى القرآني وقبلها محاولات كثيرة لا يعلمها إلا الله مع ملتقيات في الجامعة أو خارجها أو وجاهيًا أو عن بُعد، ليختار سبحانه أن أسطر الآية الأخيرةَ معهم، وهذا من فضل الله سبحانه أن يصطفيني بأن أحفظ وليس ذلك فقط بل مع ملتقى الأقصى، ثمة كثير ملتقيات تحفظ لكن ما بعد الحفظ؟ التثبيت أهم بكثير من الحفظ، إذ أن الحفظ هو الباب الأول ليُفتح لك أبواب كثيرة من تثبيت وسرد ومراجعة وتجويد.
ولله الحمد والمنة كل هذا موجود في ملتقانا العزيز، بحيث كلما أنجزنا ٥ أجزاء دخلنا دورة تثبيت بالتزامن مع الحفظ وبالتزامن مع المراجعة مع المشرفة. يبدو في البداية صعبًا لكنّ من المستحيل أن تحفظ دون ابتلاء وتمحيص من الله سبحانه وتعالى.. لذلك دائمًا يوجد اختبار من الله سبحانه إما بصعوبة سورة أو ضيق وقت أو صعوبة في المراجعة.. لذلك البداية تكون للجميع أما النهاية فهي للصادقين فقط! اللهم اجعلنا منهم.
دورة التثبيت تُدربك من بداية الحزب الأول لنهاية الجزء الخامس لتصبح قادرًا على سرد هذه الـ٥ أجزاء في ساعة وبضع دقائق بكل سلاسة. بعد معركة طاحنة من الاختبارات الكثيرة والمتشابهات التي تدرسها، لكن الثمرة رائعة. وبعد التثبيت هناك فعالية سرد ويا له من يوم منتظر! يوم يجتمع فيه المئات يسردون محفوظهم من ٥ أجزاء و١٠ أجزاء و١٥ جزء لغاية ٣٠ جزء!
طريق الحفظ مُيسر لكن هذا اليسر له ثمن، يمكن أن تُفتح لك سورة البقرة ثم آل عمران لكن تبدأ السور تصعب من النساء، وهذا ما حدث معي . وفي طريق الحفظ كله من المستحيل أن يمشي الطريق كله بيسر وسهولة يجب أن تُمتحن وهذا امتحان من ربنا سبحانه وتعالى.
دائمًا ما أقول لنفسي بأني محظوظة أنني إحدى الطالبات وليس ذلك فقط، الإشراف له طعمٌ آخر، جوّ التآخي في الله وصحبة القرآن لا يعادلها صحبة، فكل من عرفك القرآن عليه هو إنسان مميز وليس بإنسان عادي.
فأفراح القرآن العظيم لا تنتهي من حفظ وتثبيت ومراجعة وسرد وسند! كل ختمة وكل إنهاء وتثبيت سورة فرحة أُخرى .. والفرحة الكُبرى والتي نعمل لأجلها بإذن الله حين يقول ملك الملوك "اقرأ ورتل وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها" فإنها والله أعظم وأسمى الأماني، وكل تلك الدمعات والسهر والمكابدة ما لهذه اللحظة فقط، اللهم اجعلنا منهم وارحمنا واغفر لنا بالقرآن واجعلنا من أهل القرآن.
امتحان الحفظ.
طريق الحفظ مُيسر لكن هذا اليسر له ثمن، يمكن أن تُفتح لك سورة البقرة ثم آل عمران لكن تبدأ السور تصعب من النساء، وهذا ما حدث معي . وفي طريق الحفظ كله من المستحيل أن يمشي الطريق كله بيسر وسهولة يجب أن تُمتحن وهذا امتحان من ربنا سبحانه وتعالى وإلا فأي حافظ قد يبدأ بسورة البقرة كان من الممكن أن يصل إلى الناس بسهولة ودون امتحان وابتلاء، لكن هذه سنته جل وعلا في كل شيء، فعندما تُمتحن بصعوبة سورة أو حفظها أو تثبيتها اثبت فوالله إن ثبَت تُفتح لك السورة التي بعدها بيسرٍ وسهولة.
اقرأ أيضًا: كيف ينشأ أطفالنا على حب القرآن؟
فهذا الطريق يحتاج مجاهدة ومكابدة ومصابرة، بعد هذا الصبر يأتي الفتح من الله سبحانه، وهذا وعد في قوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المُحسنين"، كنت أتصور علاقتي بالقرآن بدايةً كعلاقة الإنسان الذي يتعرف على الآخر، فكنت أحاول أن أعرفه أتعرف عليه كان صعبًا ويحتاج إلى جهد ومُكابدة.. ثم تصبح بيننا تعارف وأُلفة.. فأصبحت أتفقده كل يوم ولا أستطيع إنهاء يومي بدونه.
وهنا فهمت قوله صلى الله عليه وسلم " يُقال لصاحب القرآن" فالقرآن يُصبح صاحب بعد مدة من الزمن، وأي صاحب القرآن! صاحب لا مثيل له، وأجمل صاحب. لننظر كيف تعملون"، الطريق الوحيد هو طريق المجاهدة والصبر ووضع القرآن أولوية ويسيُفتح بإذن الله سورة سورة آية آية.

