لم يخطر على بالها أبدًا أن يستشهد حبيبها في مكانهما المحبب في مخيم الشاطىء حيث المدرج المتهالك من قوة القصف، كانا يجلسان في أيام الحرب الدامية وطفلتيهما تلعبان حولهما، والزوراق الحربية تطلق نيرانها صوب البحر، ولكنهما يستمعان لموج البحر وكأن لا صوت غيره في الوجود، تبادلا الأحلام وقالا: "سنفعل كذا وكذا بعد الحرب".
لكن أمر الله قضى بأن يزف شهيدًا للعلياء في استهداف مباشر له رفقة عدد آخر، في مخيم الشاطيء. وصلها الخبر دون تمهيد "أمجد استشهد" فلم تستوعب، منذ 5 دقائق فقط قال لها وهي تطلب منه أن يعود سريعًا: "ليش ما لحقتيني يا مرتي على البحر.. بس هيني جاي". خلف وعده معها لأول مرة وهو الذي يفي بالعهود معها ولأجلها، وطار سريعًا للقاء ربه، وصرخت هي بصوت شق جدران القهر لتنكر أنه تركها رفقة طفلتين وجنين في أحشائها.
وهنا نجري حوارًا مع ضحى ناجي زوجة الشهيد أمجد عكاشة وأم الشهيدة الطفلة سارة، لتتحدث لبنفسج عن سيرة الزوج النقي، ولحظة استشهاده، وليالي الحرب الدامية، وعن طفلتها سارة التي تبلغ من العمر 5 سنوات واستشهادها بين أحضانها، عن فقدان البيت والابنة والزوج والذكريات.
| ترجل "أبو البنات" وصغيرته

في 13 مارس/آذار 2024 وبينما العائلة تدعو أن لا ينتهي رمضان إلا وقد انتهت الحرب، خلد الصغار إلى النوم بعد الإفطار، وكلهم متراصين بجانب بعضهم البعض، سقط الصاروخ على جسد الصغيرة سارة المتمددة على فراشها وسط شقيقاتها وصغار العائلة، تعالت صرخات الجميع، قتل الصاروخ الذي لم ينفجر سارة وحدها، ولو كان انفجر لقتل كل الصغار الذين ينامون بجانبها.
تقول ضحى لــــــ "بنفسج": "رأيت ابنتي تموت أمام عيني، والصاروخ يخترق جسدها الصغير، وددت أن يكون ما أراه حلمًا، رحلت طفلتي تشتهي الأطعمة التي تحبها، ولكنها صبرت كالكبار تمامًا مؤمنة أن الفرج آت، صبرني والدها أمجد وهون علي فراقها، وكان يستشهد لي دائمًا بأدلة من القرآن والسنة على أجر الصابرين وما ينتظرهم من نعيم في الجنان".
عاشت ضحى وأمجد سويًا أجمل سنين العمر، رسما المستقبل وخططا لما بعد الحرب، وقبل الإعلان عن هدنة بشهر واحد قتلت "إسرائيل" أمجد بصاروخ غادر لم ينل من جسده وحوله لأشلاء فحسب، بل نال وقتل روح ضحى وكل أحبته، وما أشعل قلب الحبيبة وجعل قلبها جمرة يزيد اشتعالها كلما مر الزمن، أنه قتل في نفس المكان الذي شهد على لحظات حبهما وأملهما ويأسهما، والذي كان من المفترض أن تكون رفقته كعادتها لكنه في ذاك الصباح خرج وحده.
في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، بدأت حرب ضحى مع النفس، انتظرت أن يأتيها أمجد ليهدأ من روعها ويتلو له آيات من كتاب الله عن أجر الصابرين، لكنه لم يأت ولكن صوته ظل حاضرًا في ذهنها وهو يقول: "أبشروا". يوم استهدافه كانت تشعل النار لتسخن المياه لتستحم طفلتيها سيلا وحنان، هاتفته قائلة: "وينك.. تطولش".. فرد: "ليش ما جيتي يا مرتي معي على البحر.. هيني مروح شوية". وكانت تلك المكالمة الأخيرة.
تكمل ضحى لــ"بنفسج": "أجوني وأنا بسخن مي الو وللبنات ليتحمموا، يحكولي أمجد استشهد، مصدقتش أبدًا، كيف هلقيت كلمته وقال يلا جاي، جريت على الشارع على المدرج عند البحر بس ملحقتوش كانت سيارة الإسعاف أسرع مني، حضنتي إمه تهون عليا طلبت منها أن تحكيلي أنه كزب وأمجد عايش.. والله ما بقدرش بدونه، حضنتني فقط وظللنا نبكي".
| ذكرى الرجل التقي

استشهدت طفلته الصغيرة فاحتسب أمره لله وصبر، وقبلها شقيقته وزوجها وأطفالها فقال الله لا اعتراض، ثم والده الذي طاله صاروخ إسرائيلي أمام باب البيت، فذاب قلبه كمدًا لكنه بقي صابرًا يحمد الله في السراء والضراء، كلما دب الرعب في قلب زوجته من المجهول قال: "كيف تخافي وأنا معك"، كان ضحوكًا خلوقًا حافظًا لكتاب الله، زوجًا تقيًا، وأبًا حنونًا سعيد بلقب "أبو البنات".
تذكر ضحى حين التقته لأول مرة في منزلها عندما تقدم لها، كان جارها ولكن لم تكن تعرفه أو يعرفها، ولكن شاء القدر أن يكون رفيقًا وحبيبًا لها، تقول: "كان خجولًا جدًا ولم تفارق الابتسامة وجهه يومها، فقلت نعم بوافر الحب، قضيت معه أسعد أيام حياتي، فهو نِعم الصديق والزوج، لم أجد كروحه الخفيفة ووجهه الضحوك".
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، خافت كثيرًا على عائلتها الصغيرة، من أن يصيبها مكروه، أصابتها الهواجس وعانت منها، وكلما صارحته بخوفها هدأها مستشهدًا بقول الله تعالي: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، تردف: "كلما خرج من البيت هاتفته لاطمئن عليه فيقول لي جملته المعتادة: "والله أنا بخير يا مرتي اطمني ما تقلقي".
عادت ضحى بعد انتهاء الحرب من مكان نزوحها في مخيم الشاطيء إلى بيت أهلها في الجلاء، دون أمجد، تعاني الشوق له ولعائلتها المغتربة، وكل ما تريده أن تعانق والدها ووالدتها المغتربين في تركيا، فتلعن الجغرافيا والحدود التي فرقتهم، تقول لـ"بنفسج": "بدأت حربي الآن مع انتهاء الحرب،
حرب ليست كأي حرب انه بركان لا يهدأ، ألم الفقد ليس جرحًا يندمل بل يزداد، ولكن ما يهون علي سيرته الطيبة بين كل من عرفه".
| الشوق قتال "وين بابا وسوسو"

أما عن ابنتيها حنان وسيلا فلم تستطع ضحى أن تواجههن وتخبرهن في البداية أن والدهن رحل عند شقيقتهن سارة، تضيف: "يسألنني بناتي أين سوسو فأجيب إنها في الجنة مع جدها إبراهيم تلعب، سيلا كانت الأكبر والأوعى من حنان عرفت فور رحيل والدها أنه ذهب عند والده وشقيقته وأطفالها وسارة،لكن حنان تبكي عند صلاة الفجر كل يوم، وتطلب الذهاب إلى مخيم الشاطيء حيث البحر، آخر مكان زاره والدها واستشهد فيه".
ما زالت ضحى تحتفظ بزي الروضة الخاص بسارة الذي لم ترتديه إلا أيام معدودة، وبجلابية أمجد، فتضعهما جانبها كل ليلة، وتبكي فراقهما، تحتضن نانا ولولو وهذا الدلع المحبب لصغيرتيها من والدهما، وتنتظر أن يأتيها المخاض لتولد طفلتها الجديدة للحياة ولكن لن يؤذن والدها في أذنها لن يراها ويخبرها أنها جميلة مثل والدتها، ختمت ضحى حديثها ل "بنفسج": "الحمد لله على كل حال، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، لا نقول إلا ما يرضى الله".