بنفسج

إيناس ماهر: الحرب التي سلبت الزوج والحبيب

الخميس 23 يناير

من هو محمد أبو هويدي
من هو محمد أبو هويدي

"محمد طلع مرجعش".. تمنت وقتها لو أنها طائر يحلق نحو الشجاعية يبحث في أزقتها عنه، شعرت بأنه حلق إلى السماء، ولكنها أنكرته وقالت إنه حيًا يرزق حتمًا، فصلتهما الحرب ما بين شمال غزة وجنوبها، أضنتهم شوقًا، ووضعت أحمالًا على أحمالهم، جعلتهم مشتاقين للقاء أخير، وسلام على الدنيا بعدها.

قدر النصيب أن تنتهي حياة الرجل الحنون دون أن يضع قبلة على رأس زوجته وأبنائه الاثنين، ودون أن يسمع صوتهم أو يرى صورهم التي أرستلهم له زوجته عبر "فيسبوك" إثر انقطاع الاتصالات والإنترنت، في شمال غزة، بقي ثابتًا مرابطًا حتى الرمق الأخير حتى ارتقى شهيدًا تاركًا عائلته.

وهنا في هذا الحوار تستضيف منصة بنفسج السيدة إيناس ماهر زوجة الصحفي محمد أبو هويدي الذي استُشهد عن عمر يناهز 32 عامًا، لتتحدث عن اللحظات الأخيرة، وتلقيها لخبر استشهاده، وعن سيرته الطيبة، وعلاقته بأطفاله، وعمله الصحافي.


الصحافي ابن الشجاعية

مخيم الشجاعية.jpg

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، دبّ الرعب في قلب إيناس وزوجها محمد وشعروا أن الحرب على الأبواب حتمًا، فقال لها: "اذهبي إلى بيت أهلك في حي الصفطاوي.. الشجاعية خطر الآن". تقول إيناس لبنفسج: "ظننا أن الوضع هناك سيكون أمان أكثر فاصطحبت أطفالي نصر 7 سنوات وبهاء 4سنوات، وخرجنا، منذ ذلك اليوم.

  لن أنسى نظراته التي كانت تحمل شيئًا غريبًا، شعرت وكأنه يودعني، في التصعيدات السابقة، كنت أذهب إلى أهلي بشكل عادي، لكن هذه المرة، صورت الأطفال معه قبل مغادرتي، وكأن قلبي كان يشعر أن هذا اللقاء قد يكون الأخير". لم تسلم منطقة أهل إيناس من القصف، ومع إجبار قوات الجيش الإسرائيلي لهم بالتوجه جنوبًا عبر بث الرعب في قلوبهم من خلال الرسائل والاسطوانات التي تصلهم بأن منطقتهم منطقة قتال خطيرة.

اضطروا للنزوح إلى الجنوب، ووقتها هاتفت زوجها الباقي في الشجاعية تخبره ماذا افعل؟ فقال: "وين ما يروح عمي، روحي معه". ومنذ حينها تفرقت العائلة ما بين شمال وجنوب.

في أكتوبر انقطع الاتصال عدة مرات عن شمال غزة، وأضحى مهاتفة أحد من الشمال حلمًا بعيد المنال، قبل الانقطاع كانت تتصل إيناس بزوجها يوميًا من سبع إلى ثماني مرات، وهاتفته المكالمة الأخيرة في 14 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعدها انقطع الاتصال بشكل كامل، مرت 3 أيام على الانقطاع وقلبها كجمرة مشتعلة من قلقها، تسأل نفسها أهو على قيد الحياة؟ ماذا يفعل؟ ما الذي يجري؟ حتى مساء اليوم الرابع عاد الاتصال، فحاولت أن تحادثه لكن لا مجيب.

تكمل إيناس بصوتها المرتجف: "فجأة، تلقيت مكالمة من إسلام، شقيقة محمد. أجبتها بسؤال عن حالهم، فردت قائلة: "ما وصلك رسائلنا؟" قلت لها: "لا، ماذا حدث؟" فأخبرتني: "محمد ومؤمن شقيقه خرجوا يوم الجمعة ولم يعودوا"، نزل الخبر علي كالصاعقة". هاتفت إيناس والدة محمد فأخبرتها: ادعي لهم.. إن شاء الله يكونوا بخير. لا نعلم أين هم خرجوا ليشتروا الطعام ولم يعودوا".

 مرت الأيام وإيناس تعيش في حالة من اللاوعي حتى انتشر خبر استشهاد الصحافي محمد أبو هويدي عبر شاشات التلفزة، بعد أن انسحبت قوات الجيش وعُثر على جثته. تضيف لبنفسج: "لا تتخيلوا كمية الألم حين علمت بخبر استشهاده من الإنترنت، ولم أتمكن من رؤيته أو وداعه. رغم أنني كنت أشعر أنه استشهد منذ اختفائه، إلا أن تأكيد الخبر كان صعبًا للغاية. لم أكن بجانبه، لم أره، ولم أودعه، حتى الآن، لم أتمكن من زيارته في قبره".

فراق بلا وداعاتاستشهاد محمد الهويدي.jpg

تقول إيناس: "محمد ما بعرف ينام برا البيت قديه عمره 32 سنة عمره ما نام برا البيت".في اليوم الأخير في الشجاعية التقطت إيناس صورًأ لمحمد مع  أطفاله نصر وبهاء، تضيف: "حتى الآن، كلما نظرت إلى تلك الصور، أرى في عينيه شيئًا مختلفًا، نظرة تحمل الكثير من المعاني كأنها نظرة وداع وكأنها تقول إنه لم يعد معنا في هذا العالم".

كان محمد رجلًا حنونًا تقيًا تصفه زوجته بالزوج الصالح، وتردف: "لم أنس أبدًا دعمه النفسي لي، خاصة في أصعب الأوقات. قبل الحرب بفترة، مررت بمرحلة مرض شديد، وكنت أشعر بالضعف الجسدي والنفسي. لكنه كان دائمًا إلى جانبي، بكلماته الطيبة التي كانت تهدئ قلبي وكأنها بلسم يشفي جراحي. كان يخفف عني بكلماته الحنونة، وأذكر كيف كنت أشكو له ضعفي، فيرد علي بابتسامة مليئة بالأمل: "إن شاء الله، بكرة بتصيري أحسن يا أم النصر".

لم أنس أبدًا دعمه النفسي لي، خاصة في أصعب الأوقات. قبل الحرب بفترة، مررت بمرحلة مرض شديد، وكنت أشعر بالضعف الجسدي والنفسي، لكنه كان دائمًا إلى جانبي، بكلماته الطيبة التي كانت تهدئ قلبي وكأنها بلسم يشفي جراحي.

عند تلقي خبر استشهاده بشكل مؤكد ألهم الله إيناس الصبر والسلوان، فحمدت الله على نيله الشهادة، دُفن جثمان محمد في أرض خاصة، وبعد ستة أشهر نقل للدفن في مقبرة، فوجدوه كما هو، رافعًا أصبع السبابة، تقول: "كل الأحلام والرؤى التي رُويت لي عنه كانت مطمئنة ومبشرة. كان يظهر في رؤياي مرتديًا الأبيض، يسير على حرير، حاملًا تاجًا. الحمد لله على كل شيء، فكل هذه الإشارات كانت رسائل من الله تطمئنني بأن محمد في مكانة عظيمة".

أما عن عمله كصحافي وقلقها عليه من الخطر المحدق بالصحافيين وخوفها عليه من الاستهداف، تقول لبنفسج: "كان القلق عليه كصحفي هم كبير وعبء ثقيل لا يمكن تحمله بسهولة، الصحافي في مثل هذه الأوقات يكون في قلب الحدث، بين الخطر والتهديدات المستمرة، وهذا ما يجعلني دائما في حالة ترقب دائم، قلبي ينبض بالخوف من كل لحظة، الحرب لا تقتصر على المعارك في الميدان فقط، بل تشمل أيضًا معركة من نوع آخر، معركة داخلية. في كل دقيقة تمر، يتسابق القلق إلى قلبي، حالة من التوتر المستمر".

أبو النصر والبهاء

الصحفي محمد الهويدي.jpg

أما عن الأب محمد أبو هويدي، فكان أبًا مثاليًا، طلب قبل استشهاده أن يرى صور أولاده نصر وبهاء، فأرسلتهم له عبر الإنترنت، ولكن لم يستطيع محمد رؤية صور الصغار بسبب انقطاع الإنترنت عن شمال غزة، رحل وهو مشتاق لنظرة أخيرة لأحباب قلبه. تعقب إيناس: "كل مرة أتذكر تلك اللحظات، أشعر بوجع لا يوصف. محمد لم يمت فقط بسبب الحرب، بل مات قهرًا واشتياقًا لأطفاله، للفرصة التي لم تمنحها له الحياة ليضمهم إليه مرة أخرى.

رحيله بهذا الشكل ترك جرحًا عميقًا في قلبي، وجعلني أدرك مدى قسوة الحرب التي لا تكتفي بقتل الجسد، بل تقتل الروح أيضًا، وتسرق منا أحلامنا وأحبائنا". لم يكف محمد من بداية الحرب على توصية إيناس على نفسها والأطفال، ويظل يكرر لها: "ديري بالك على حالك وعلى الأولاد، ما تطلعوا على الشوارع كثير، خلي بالك عليهم".

تضيف: "أصبحت تلك الكلمات تذكارًا لا يمكن نسيانه، تلاحقني كلما شعرت بالقلق أو الخوف، كان محمد دائمًا يُظهر لنا كيف أن الحب لا يعرف حدودًا، ولا يتوقف حتى في أصعب الظروف. سأظل أتذكر تلك الكلمات وأعمل بها لأجل الأولاد، كي أكون دائمًا حريصة على سلامتهم كما كان هو حريصًا".

أما عن الصغار نصر وبهاء، على الرغم من صغر سنهما،إلا أنهما يحملان في قلبيهما حبًا وشوقًا لا يمكن وصفه تجاه والدهما محمد. كان والدهم بالنسبة لهما ليس فقط مصدر الأمان والحب، بل كان أيضًا شخصًا يملأ حياتهما بالفرح والضحك. تقول لبنفسج: "نصر، الذي كان في السابعة من عمره، كان دائمًا يتحدث عن والده بكل فخر وحب، يسأل عن لحظة عودته.

 ويخبئ في قلبه أمنياته أن يرى والده يعود ليحضنه. أما بهاء، الذي لم يتجاوز عمره الأربع سنوات، فكان قلبه ينبض بحب والده، رغم أنه لم يتمكن من فهم كل شيء حوله، لكنه كان يشعر بغيابه وكأن شيئًا مفقودًا في حياته، ويكرر: بابا بالجريدة".

تنتظر إيناس أن تعود إلى شمال غزة بعد اغتراب عن البيت استمر ل 15 شهرًا، لتزور قبر محمد، لتحكي له كل الآلام التي عايشتها في غيابه، ولتعده أنها على العهد وستحافظ على أمانته نصر وبهاء وستحكي لهم أن لهم أبًا عظيمًا جدًا.