"يعني برضيكي يا تيتة أعيش بدون بيت وأهل لحالي".. بكت حين قالها بصوته الطفولي وهو يرفع نظارته الطبية مواريًا دموعه التي انهمرت، يحدثها كل ليلة عن لوعته للقاء يجمعه بوالدته ووالده وأخته الذين اختطفهم صاروخ إسرائيلي موجه إلى منزلهم، تنتابه نوبات من الخوف على جدته التي تعتني به، تسمعه وهو يناجي الله "يارب تيتا ما تموت.. يارب أنا خايف".
هنا، نلتقي السيدة سها الخالدي جدة الطفل كرم الناجي الوحيد من العائلة، فتولت مسؤولية تربيته، تروي عن فراق ابنتها مريم الخالدي وزوجها علاء وطفلتهما إيلياء، تفتح دفتر الذكريات لتبكي معنا وهي تروي عن سيرة ابنتها التي كانت روحًا لها.
يوم أن رحلت مريم
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وصل السيدة سها خبر استهداف منزل مريم رفقة عائلة زوجها، ظنت أن ابنتها بخير، فقالت لها ابنتها مرام: "ماما بدنا نروح نودع إيلياء". فردت: "الله يصبرك يا بنتي يا مريم فراق الابنة صعب". حتى جاءها الخبر الذي قصم ظهرها بأن مريم وزوجها علاء ووالديه وأشقائه والصغيرة إيلياء جميعهم شهداء.
لم يُسمح لها باستيعاب الصدمة على مهل فجاؤوها بآخر ما تبقى من ابنتها حفيدها كرم الذي كان يبلغ آنذاك 5 سنوات، تقول لبنفسج: "جلبوا لي كرم من تحت الركام في حالة يُرثى لها مصابًا بجروح بكل مكان بجسده، ورائحة البارود والغبار تغمره، كان يرتجف من خوفه، بمجرد أن رآني أنا وخالته مرام ابتسم لنا، ولكنه حينما عرف باستشهاد عائلته فقد النطق تمامًا لفترة".
اقرأ أيضًا: زهراء شاهين: "طفلتي مسك أنقذتني من موت محتوم
كان كرم عوض الله لها عن ابنتها مريم، هو ما جعلها صامدة حتى اللحظة لأجله تعيش وتتمسك بالحياة، يشبه والديه، تحدثه دائمًا عن والدته مريم التي لم ينسها هو أبدًا على الرغم من صغر سنه، تحكي له عن طفولتها ويوم أن ولدت إذ لم يكن لها اسم في البداية، وبعد ساعات جاء والدها ليقول سأسميها مريم على اسم السيدة مريم.
تستذكر السيدة سها ابنتها والدموع تتساقط من عينيها، تخبرنا أن والدها استشهد عندما كان عمرها 11 عامًا، فذاقت ألم الفراق منذ عمر مبكر، وكانت وسيلتها لتهدأ نفسها الكتابة، كلما اشتاقت له ترثيه ببضع نصوص.
ربت سها 5 أولاد أيتام لوحدها، أدت دور الأم والأب بنجاح، فأضحى لكل منهم حياته، مريم اختارت أن تدرس الدراسات الإسلامية، فحصل لها ما أردات، ثم تزوجت من ابن عمها ليكون يوم زفافها أجمل ما يكون بالنسبة لوالدتها.
الناجي الوحيد من العائلة: "لو رميت حالي من فوق بروح عند أهلي"
رُزقت حبيبة والدتها بطفلين، أسمت البكر كرم والثانية كانت إيلياء، فأقامت السيدة سها الليالي الملاح، فرحًا بالموهوب، كان أول حفلة ميلاد لكرم جميلة أعدت والدته الحلويات، فهي بارعة في إعدادها، إذ عهدها أشقاؤها الأربعة بطيب نفسها بالحلوى.
تروي سها لحفيدها كرم كل ما يخص والدته، فيحفظ كل ما يُقال عن ظهر قلب رغم صغر سنه، يمسك هاتف جدته عادة ليشاهد صور أبيه علاء ومريم وإيلياء، فيقول: "تيتة ياريت إيلياء ترجع.. يارب ترجع والله مش هضربها".
لا يتوقف كرم البالغ الآن من العمر 7 سنوات عن السؤال عن والديه وأخته، يسأل: "تيتة.. هو لو وقعت على حالي الحيطة بموت.. وأكيد بلتقي بأهلي صح". ينقبض قلب الجدة من حديثه، ولا تعلم على من تحزن على ابنتها التي قتلتها "إسرائيل" وهي لم تتعدَ الخامسة والعشرين عامًا، أم على زوجها علاء والصغيرة إيلياء صاحبة الثلاث سنوات.
اقرأ أيضًا: آية أبو سخيل: حين تتحول الذكريات إلى مراثي
ومن المواقف التي هزتها من الداخل، حينما رأى كرم سيدة تشبه مريم، فصار يجري نحو جدته ليخبرها أن وجد شبيهة والدته، تضيف: "كان سعيدًا برؤية الفتاة، يرتعش وهو يخبرني عن حجم الشبه، فسألته هل تحدثت معها فقال لا، ابتسمت لي وذهبت، وصار يبكي ويقول: "افتحيلي على صور ماما مريم بدي أشوفها".
تذكر سها جيدًا آخر اتصال بينها وبين زوج ابنتها إذ قالت: "سلم على مريم"، وهذا كان الحديث الأخير، لتبقى صغيرتها وعائلتها تحت الركام لفترة إلى أن انتشلوها ليدفونهم في رفح، فكانت طلما اشتاقت أخذت كرم الناجي الوحيد من العائلة وزارتهم لكن الآن جُرفت المقبرة ولم تعد هناك قبور للأحبة. تختم حديثها لبنفسج: "بحكيلي كرم نفسي بس أكبر أصير مهندس زي بابا علاء، بس ياريته عايش.. ياريتهم كلهم عايشين".