كانت تحلم بأن تكون مراسلة تلفزيونية، فأحبت الصحافة منذ طفولتها، اجتهدت لأجل الوصول لحفر اسمها في العالم الصحافي، كانت على بعد خطوة واحدة من التخرج من قسم الإعلام التي لطالما رددت في صغرها لقب "الصحافية الزهراء"، وبينما هي في الطريق نحو المستقبل تخطط وتحلم وتأمل، وتنهل من علم والدها معلم اللغة العربية، فنون الكتابة، باغتها صاروخ إسرائيلي غادر ليخطف روحها رفقة شقيقها ووالدها، ليغادروا الدنيا بعد شقاء وعناء في حرب الإبادة الجماعية، لكن ظلت سيرتهم الطيبة تجوب الدنيا.
تستضيف منصة بنفسج آية أبو سخيل شقيقة الشهيدة الصحافية والطالبة في جامعة الإسراء الزهراء أبو سخيل، لتروي عن شقيقة الروح، وشقيقها أحمد، ووالدها المعلم الذي لطالما كان قدوتها ومرجعها الأول، عن الفراق لعام ما بين الشمال والجنوب، عن جنازة أخويها ووالدها التي لم تحضرها.
رحيل أعمدة العائلة الثلاثة
بعد ما يقارب عام على نزوح آية ووالدتها وأشقائها إلى جنوب غزة بعد محاصرتهم في مشفى الشفاء، وبقاء الزهراء وأحمد ووالدهم في شمال غزة، تشتت العائلة ليعانوا أصعب شيء من الممكن أن يمر به المرء وهو على قيد الحياة، أن لا يعرف إن كانت عائلته على قيد الحياة أم لا، تؤكد آية أنه كان من أصعب المواقف عليها عند انقطاع الاتصالات عن الشمال، كانت الأيام كاحلة في نظرها هي تنتظر فحسب الخبر اليقين.
في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وصل الاتصال الأقسى لآية في تمام السادسة صباحًا من أحد الأقارب في مدينة غزة، يمهد لهم رحيل ثلاثي العائلة الجميل، تقول بصوت أنهكه الفراق: "استهدف أبي وأخي وأختي الزهراء في مدرسة فهد بن صباح التي كانوا ينزحون فيها، بعد تنقل طويل بين محطات النزوح، لم أستوعب الخبر في البداية، كيف سأعود إلى غزة ولا أجدهم، هل سأتوقف عن الرد على دعاء والدي ب اللهم لم شملنا ب آمين، أصعب ما كان في الفراق هو رحيلهم دون وداع أخير، إنه لأمر قاس جدًا".
اقرأ أيضًا: الصحفي إبراهيم الشيخ علي: الموت حرقًا ثمن الحقيقة
كانت الفاجعة مروعة على قلب والدة آية التي فقدت الزوج والابن والابنة؟ فكيف لها أن تحتمل هذا الألم، بقلبها التي وصفته آية ب "الحساس"، فحتمًا كان ستنهار لحظة الصدمة لكن ربط الله على قلبها.
تضيف آية: "والدتي عشرة عمر مع أبي امتدت لثلاثين عامًا، كان فراقه شديدًا عليها، لا يُذكر في مجلس ولا ترى صورة له إلا وتبكيه هو والزهراء وأحمد، وشقيقي كان يمازح أمي أنه سيتزوج في الحرب، وكم تمنت أن ترى أحفادها منه فهو البكر الغالي، أما الزهراء فكتبت لأمي منشورًا على فيس بوك تعبر عن مدى اشتياقها وحبها لها قبل استشادها بيوم، بكت أمي وقتها ولا زالت تبكيها".
في سيرة الشهداء
تخرج آية من نوبة بكائها على مثلها الأعلى، الذي اشتاقته جدًا، تشتاق لصوته الندي الذي كان يصدح في الأرجاء في الليالي الكاحلة، ليربت على قلبها الموجوع، ومنذ رحيله تحمل صوته معها في كل مكان، لتخبرنا: "لا صوت أجمل من صوت أبي، يقرأ القرآن بصوت شجي، أحب سماع سورة الفتح بصوته الجميل، وله أدعية عديدة بصوته على اليوتيوب، كان إمامًا لجامع بالقرب من بيتنا، ويا فرحتي وأنا أسمع الآذان بصوته، منذ غيابه فقد المسجد صاحبه وفقدنا نحن أبًا وقامة علم كبيرة".
أما الزهراء كانت الظهر المتين لآية، إن تخطى أحد حدوده معها تقحم الزهراء نفسها لتدافع عن شقيقتها الكبرى، فمن يزعج آية بحضورها، لم تنس يومًا مواقف شقيقة الروح معها، صوتها وهي تحكي عن أحلامها وخطوتها القادمة، تكمل: "شقيقتي كانت تحب العمل الصحافي، عملت في وكالة الإعلامية نيوز مراسلة، وأصرت على نقل الصورة على الرغم من المخاطرة، رافقها شقيقي أحمد كمصور وهو خريج كلية الهندسة، وكان يعمل مصورًا وممنتجًا مع الزهراء، وحقيقة كانا يخافان من الاستهداف خصوصًا بعد تعمد قتل الصحافيين لكنهما وكلا الأمر لله".
"عدنا للبيت فاقدين"
لطالما حلمت الزهراء بلحظة سفرها مع والدتها للعمرة، وخططت لسفرها مع آية للفسحة بعد انتهاء الحرب، أما أحمد فأصابته الغبطة بعد استشهاد أبناء عمومته ليكون شاهدًا على رائحة المسك النابعة من جثماينهم، فتمنى شهادة مثلهم، تقول آية: "كان مشتاقًا ليحضن أمي ويحضننا هو وبابا والزهراء، بضل يقلنا هجري على نتساريم أستناكم أول ما يفتح الحاجز، فتح الحاجز بس أحمد مجاش".
تختم حديثها: "عدنا إلى البيت بعد وقف إطلاق النار المؤقت بعد عام من الفراق، لكننا عدنا ناقصين 3 أفراد، وجدنا حاجيات أبي وسبحته، وملابس زهراء وكتبها، وعطور أحمد ورائحته العالقة في البيت على الرغم من الغياب الطويل، يصدح صوت إمامنا الشيخ في البيت لكن دون أن نراه، نسأل الله الرحمة والمغفرة لهم".