بنفسج

إسلام مقداد: الموت زائر يومي لأمهات غزة

الأحد 16 نوفمبر

استشهاد الصحافية إسلام مقداد
استشهاد الصحافية إسلام مقداد

كان الخبر قصيرًا، لكنه حمل بين حروفه زلزالًا حطمها: "استهداف منزل عبد الهادي". قرأته ببطء، كأنها تحاول تأجيل الفاجعة، أمسكت هاتفها بيد مرتجفة واتصلت بشقيقتها. رن الهاتف، فتنفست الصعداء: "إذن ما زالت على قيد الحياة."  لكن طمأنينتها لم تدم طويلًا، فحين هاتفت والدها لتطمئن أكثر، جاء صوته المتهدج بعد صمت ثقيل: "قولي يابا إنا لله وإنا إليه راجعون." سقط الهاتف من يدها، وسقط معه ما تبقى من قلبها.

تكرر المشهد ذاته، فقد جديد بعد زوجها الذي استُشهد قبل أشهر، لكن هذه المرة الفقد كان أثقل، لأن من كانت تواسيها في كل وجع رحلت. من سيجيد الآن الطبطبة على الجراح في حضرة الغياب والقهر؟ رحلت طبيبتها وشقيقتها قبل أن تحقق حلمها بلقاء ابنتها المصابة والمسافرة للعلاج، قبل أن تسمع صوت ابنتها الأخرى التي فقدت النطق في الحرب، وغادرت قبل أن تكتب فصل النجاة من الحرب وتحلق إلى بيت الله معتمرة كطائر حر من قيوده.

هنا نحكي مع إسراء مقداد، شقيقة الصحافية الشهيدة إسلام مقداد، التي رحلت بعد أن عاصرت فصولًا قاسية من حرب الإبادة في غزة. تحدثنا عنها كصحافية مجتهدة وأخت حنون وأم مثالية، كانت سندًا لعائلتها وملاذًا لأطفالها. لكن الحرب سرقت منها كل شيء: فرقتها عن طفلتها المصابة، أفقدت ابنتها الثانية النطق، لتعيش وجعًا لا يُحتمل حتى يوم رحيلها.

أنا لست رقمًا

نجاة من الموت فبي غزة.jpg

"لست فتاة عادية ولا رقمًا. استغرقت تسعة وعشرين عامًا لأصبح كما أنا الآن. لدي بيت وأطفال وعائلة وأصدقاء وذاكرة والكثير من الألم."
كانت كلمات إسلام مقداد تختصر رحلتها مع الحياة والمقاومة. أُصيبت طفلتاها سارة وزينة في الحرب، وقيل لها إن زينة لن تعيش، فذاقت لوعة لا تشبه غيرها؛ بين وداع مؤقت لطفلتها التي سافرت للعلاج خارج غزة، واحتضان لصغيرها آدم وسارة التي أرهقتها الصدمة.

ظلت عامًا كاملًا تنتظر لمّ الشمل، لتكحل عينيها برؤية زينة مجددًا، لكن القصة لم تكتمل. ارتقت إسلام شهيدة مع طفلها آدم، تاركة وراءها صورًا معلقة، ودفترًا لم يُغلق، وأطفالًا سيكبرون على حكاية أم علّمتهم أن الكلمة مقاومة.

تقول إسراء بصوت متعب: "أُصبت بصدمة عند فراق إسلام. كانت تكبرني بأقل من عام، كنا كالتوأم. كانت تصبرني على فراق زوجي، لكني اليوم أشعر باليُتم في غيابها."

ما خفّف عنها قليلًا أن جسد شقيقتها كان كاملًا، فقد تمكنوا من وداعها ودفنها، وهو أمر نادر في غزة وسط آلاف المفقودين والممزقين تحت القصف. تضيف: "كان رأسها منتفخًا فقط، لكن ملامحها كما هي. رأيتها كما عهدتها، بوجهها الجميل وطلتها الجذابة. ودعتها بالدموع والإنكار، رافضة تصديق أن لا إسلام بعد اليوم."

ماما "إسلام"

رحيل إسلام مقداد.jpg

لم ترحل إسلام وحدها، بل رحل معها طفلها آدم، صاحب العام والنصف. كانت تحتضن طفلتها سارة وقت القصف، فأنقذها حضنها، بينما طار جسد آدم الصغير لبيت الجيران، وعُثر عليه بعد ساعتين من البحث. تقول إسراء وهي تمسح دمعة: "كان آدم طفلًا رائعًا، أكبر من عمره، شديد التعلق بإسلام. عندما كانت تخرج لعملها، تتصل أكثر من مرة لتطمئن عليه. كتب الله لهما الشهادة معًا حتى لا يُقهر أحدهما بفقد الآخر."

تستعيد إسراء طفولتها مع شقيقتها التي حفظت القرآن، وأحبّت الخير، ودرست الإعلام لتحقيق حلمها. عملت في مؤسسات صحافية عديدة، وكانت تُعرف بابتسامتها الدافئة وروحها المشرقة التي تخفف عن الآخرين ثقل الحياة. "كانت تعود من عملها لتصطحب سارة إلى علاج النطق، تحلم بشفائها، تسعى لتحويلة طبية للخارج، لكنها رحلت مقهورة على طفلتيها اللتين أنهكتهما الحرب."


اقرأ أيضًا: أحمد المدهون& ولاء صافي: احتلال يسرق الحب والأماني


كانت أمنيات إسلام كثيرة وبسيطة: أن تجتمع بأسرتها من جديد، أن تشفى ابنتاها، وأن تزور بيت الله الحرام مع شقيقتها. تقول إسراء بصوت متحشرج: "كلما حزنت، كنت أتصل بإسلام، ترفع معنوياتي وتخبرني أن أكون قوية لأجل أولادي. كانت تأخذني للبحر لنلتقط الصور. اليوم، كل موجة تذكرني بها."

رحلت إسلام، لكن أثرها باقٍ في قلوب أحبائها. حتى الألوان التي كانت تحبها فقدت بريقها، تقول إسراء: "اللي متل إسلام ما حدا بعبي مطرحها... رح أضل حاسة بالنقص طول حياتي." قبل استشهادها، كتبت إسلام كلماتها الأخيرة: "أكثر ما يخيفني هو أن يُذكر موتي كرقم في نشرات الأخبار، أن يُقال: استشهاد فتاة وثلاثة آخرين في استهداف منزل مدني."

مرّت سبعة أشهر على رحيلها وطفلها، ولا تزال ابنتها زينة في تونس تتلقى العلاج دون أن تعرف بخبر استشهادهما، بينما تواصل سارة صمتها، فاقدة للنطق منذ ذلك اليوم. تطبطب عمتها على جرحها، لكن الجروح، بلا يد الأم الحانية، تبقى مفتوحة، لا تلتئم... ولا تهدأ.