بنفسج

د. مريم صالح: بعض من حياة العلم والعطاء

الأربعاء 27 يوليو

"الأرض أم أنت عندي أم أنتما توأمان.. من مدّ للشمس زندي الأرض أم مقلتان.. سيان سيان.. إذا خسرت الصديقة فقدتُ طعم السنابل.. وإن فقدت الحديقة ضيعت عطر الجدائل.. وضاع حلم الحقيقة.. لذلك فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الاسم"...

حوارنا المرة مختلف، مع امرأة مختلفة، تشعرك نبرة صوتها بأنها فتية، قلبها معطاء، في البيت والشارع والأمومة والمضمار، وتعطي ولا تتوقف...تذكرني بصاحب الفسيلة، ولا تنضب! بدأت امرأة في أمومتها، ومن ثم طالبة، فأكاديمية، فامرأة سياسة تخوض غمار الانتخابات، وتعد لبرامج، وتنظم الحملات في القرى والمدن، ولا تتوقف في كل ذلك عن إعطاء المحاضرات والندوات أينما اتُفق مكانها. وهي في كل ذلك، أم لأبناء ناجحين، تفتخر بهم أينما حلّوا وارتحلوا. ضيفتي وضيفة بنفسج، الدكتورة مريم عمّار، 69 عامًا. ولدت في مخيم دير عمار، تهجّر أهلها  في نكبة عام 1948، من بير نبالا شمال غرب مدينة القدس، والقريبة من اللد، وتحديدًا ما يُسمى اليوم مطار اللد، إلى قرية شقبا قضاء رام الله.

| ذكريات الزمن القديم

تقول الدكتورة مريم مسترجعة الروايات الشفوية على لسان والديها: "حسب رواية أهلي، عندما هُجّروا، استقبلهم آل عمران شلش. والعوائل الأخرى المهجّرة، واستضافوهم لشهور في بيوتهم، وحتى يومنا هذا لم تنقطع العلاقة معهم، فكانوا يومًا أكثر من أهل. بعد أربع سنوات من المكوث في شقبا، توجه أهلي للاستقرار في مخيم دير عمار، حيثما ولدت هناك في عام 1953.

قبل دخولي للمدرسة، انتقل أهلي للعيش في مدينة رام الله، وفيها درست، فكانت المرحلة الأساسية والإعدادية في المدارس النموذجية التابعة لدار المعلمين، والثانوية في مدرسة البيرة الثانوية للبنات، بسبب انتقالي للفرع الأدبي في مرحلة الأول ثانوي والثاني ثانوي.

كان أبي يعمل مقاولًا، وكان صاحب كسارات حجر. أما أمي فكانت ربة منزل وأمية، ولكن كسائر نساء فلسطين، كانت غنية بالحكمة والمعرفة .أما أفراد عائلتي، فمن الذكور ستة، ومن الإناث اثنتين أنا وأختي، وجميعنا متعلمون وبدرجات علمية كبيرة؛ فأحد إخوتي بروفيسور فيزياء، والآخر مهندس كهرباء من الرعيل الأول، وآخر حاصلٌ على ماجستير في الاقتصاد، والتالي أستاذ باللغة العربية.

inbound4461985549843221121.png

أما أنا فكنت أطمح لإكمال دراستي الجامعية بعد الثانوية، ولكن لم يكن وقتها جامعات في الضفة الغربية، حتى الجامعات العريقة اليوم، كانت عبارة عن كليات؛ فجامعة بيرزيت مثلًا كانت تُسمى كلية ناصر، وهناك أيضًا معهد المعلمات. وفي حال أردت الدراسة في الجامعة، لم يكن هناك خيار سوى الدراسة في الأردن، وهو ما كان مرفوضًا لدى الأهل تبعًا للظروف والعقلية في ذلك الوقت. حتى المعاهد الموجودة في الضفة، كما ذكرت سابقًا، حرمت من دخولها، فكان يرى أبي أن زواج الفتاة أفضل لها، وإنهاءها لمرحلة التوجيهي أمر عظيم جدًا، وفيه درجة عالية من الانفتاح الذي وصلت له".

وعن زواجها وحياتها الشخصية تقول: "تزوجت، كما جرت العادة في المجتمعات آنذاك، في عام 1971، وكان زواجًا تقليديًا بالطبع! زوجي كان مهندسًا، يعمل في السعودية، وهو من عائلة الطريفي الذين يسكنون في قرية دير طريف قرب بير نبالا، وكانوا قد تهجروا مع أهلي إلى شقبا يوم أن تهجرنا. وبعد زواجنا ذهبت معه إلى السعودية حتى عام 1993.


اقرأ أيضًا: سمر حمد: عناقيد خير يرويها القرآن


سكنت في مكة المكرمة، وكان جميل جدًا أن أعيش في محيط الحرم المكي، ولكن المجتمع هناك كان منغلقًا ومنعزلًا جدًا. لم يكن هناك أهل ولا معارف ولا أقارب. وبسبب الطقس كنا لزيمي البيت؛ لا مكان نخرج للتنزه فيه حتى، ولطالما كنا أنا وزوجي نطمح في اليوم الذي تسمح فيه الفرصة للعودة إلى فلسطين؛ فالسعودية كانت بالنسبة لنا مرحلة وستنتهي عاجلًا أم آجلًا، حتى أبناؤنا، لطالما قلنا لهم أن هذا ليس مستقرنا، بل في فلسطين حين أحببنا أحبوا هم بعد حين.

| سنوات العلم المنتظرة

 
بعد زواجي ظل الحلم يراودني؛ حلم الدخول إلى الجامعة، وكنت أريد أن أنتسب لأي جامعة، كان هدفي فقط أن أكمل تعليمي أينما كان. حاولت كثيرًا أن أنتسب لجامعة بيروت، ولكن كان هذا صعبًا جدًا خصوصًا أنه أصبح لدي طفلين وقتها، ولكن، بفضل الله، انتسبت إلى جامعة أم القرى التي سمعت عنها من زوجات أصدقاء زوجي، وهي جامعة تابعة لجامعة الملك عبد العزيز.
 
كانوا قد افتتحوا قسمًا خاصًا بالفتيات، ويريدون فتيات من أي جنسية لتفعيل القسم، كنت أرغب بدراسة اللغة العربية. ولكن شاء الله بعد نصائح أن أدخل كلية الدعوة وأصول الدين، ودرست على يد كبار العلماء مثل الغزالي وأبو العينين وغيرهم.

وعن أدهم الشرقاوي أنقل قوله في حوار سابق له في بنفسج: " "النساء بارعات في تعليم الدروس؛ ربما تعلمتُ منهن مفاهيم عامة أكثر مما تعلمت دروسًا خاصة. من جدتي تعلمتُ أن الإنسان لا يحتاج شهادة ليكون عظيما؛ ومن أمي تعلمتُ معنى أن الراحة لا تُطلب بعيدا عن الله؛ ومن زوجتي خديجة تعلمتُ معنى أن يكون للإنسان إنسان يقاتل في الكواليس بشراسة ليبقى هو في الواجهة". ومريم أم وزوجة ومعلمة، حكيمة متزنة، وهي في كل هذا العلم، قادرة على نقله وتعليمه، إذ تقول في رحلتها الأكاديمية تعلّمًا وتعليمًا:

"بعد زواجي ظل الحلم يراودني؛ حلم الدخول إلى الجامعة، وكنت أريد أن أنتسب لأي جامعة، كان هدفي فقط أن أكمل تعليمي أينما كان. حاولت كثيرًا أن أنتسب لجامعة بيروت، ولكن كان هذا صعبًا جدًا خصوصًا أنه أصبح لدي طفلين وقتها، ولكن، بفضل الله، انتسبت إلى جامعة أم القرى التي سمعت عنها من زوجات أصدقاء زوجي، وهي جامعة تابعة لجامعة الملك عبد العزيز. كانوا قد افتتحوا قسمًا خاصًا بالفتيات، ويريدون فتيات من أي جنسية لتفعيل القسم، كنت أرغب بدراسة اللغة العربية. ولكن شاء الله بعد نصائح أن أدخل كلية الدعوة وأصول الدين، ودرست على يد كبار العلماء مثل الغزالي وأبو العينين وغيرهم.

inbound7023984335860848741.png
كنت متفوقة ومميزة، حتى أن كثير من المدرسين هناك كانوا ينادونني بالدكتورة، وبالفعل أكملت بعدها الماجستير والدكتوراه، وهو ما لم يكن يخطر على بالي ولا في أحلامي حتى في تلك الأيام.

بالعودة إلى البكالوريوس، فقد تخرجت الأولى على شعبتي مع مرتبة الشرف، وكان لي ذكريات في تلك الأيام لا أنساها أبدًا. وبعد عامين التحقت بكلية الدراسات العليا لإكمال الماجستير، وكان عبارة عن عامين دراسة منهجية. وبعدها أبدأ بالرسالة التي كانت مبهرة للكثيرين، وكانت بعنوان "القرآن الكريم بين الترف والمترفين"، وأخذت مني تلك المرحلة فترة ٦ سنوات تقريبًا، من دون إرادتي، كان مشرفي يقول لي ’تأني، ولماذا السرعة‘، ناهيك عن العامين الأولين في التحضير.

أما عن الدكتوراه؛ فكانت خارج تفكيري، وأراد الله أن ألتحق بها؛ ففي نهاية دراسة الماجستير بدأت أستعجل أساتذتي كي يناقشوا أطروحتي، لأنني أريد أن أعود إلى فلسطين قبل بداية العام الدراسي الجديد، لأسجل أبنائي في مدارس فلسطين، وقمت وقتها بجمع جميع الأوراق اللازمة لنقلهم، ولكن كان أحد المشرفين رافضًا تمامًا مناقشة الأطروحة في ذلك الوقت، لأنه لم يكن متاحًا، فامتد الأمر عامًا إضافيًا، وحال دون عودتي لفلسطين.

inbound8276962287738504671.png
مريم صالح مع الشيخ حسن يوسف

وهذا التأخير هو ما أتاح لي الفرصة لدراسة الدكتوراه، فبعد مناقشتي لأطروحة الماجستير. وظهر تميزها بدأ جميع المدرسين بمحاولة إقناعي بالدكتوراه، ولأن أطفالي ما زالوا في مدارس السعودية، وجدت أن لا مانع من البقاء حتى أنهي الدكتوراه. ولدراسة الدكتوراه كان يجب الالتحاق بامتحان حتى أتأهل لها، تقابلنا فيه لجنة من كبار العلماء، واستمريت في الدراسة مدة سبعة شهور، ثقافة عامة وسياسية ودين وجغرافية وتاريخ، كتب وأوراق لا حصر لها، كانت معي في كل مكان حتى في سيارة زوجي، كنت أدرس في الطريق إذا ما ذهبنا من مكان لآخر.

عام 1988، التحقت بالامتحان، وتفوقت مرة أخرى، وحزت على إعجاب وانبهار اللجنة، واخترت يومها بعد نصائح عدة أن تكون أطروحتي في الحديث النبوي. وتحديدًا تحقيق في صحيح مسلم، وكنت أول امرأة تقوم بهذه الدراسة، كان هناك كثير من الرجال الذين درسوا الحديث، ولكن امرأة أنا كنت الأولى.

| العودة للوطن

inbound1191150100284433317.png

بعد نجاحي بالامتحان، ذهبنا إلى فلسطين إجازة، ولم أخبر أحد عن الموضوع، لأن الجميع سواء من أهلي، أو أهل زوجي، كانوا دومًا يحبطونني ويكسرون مجاديفي، كما يُقال بالعامية: "ما فائدة هذه الدراسة، وكل هذا من صحتي، وعلى حساب بيتي وأولادي وزوجي وهم أولى بها ..". ولكن زوجي هو الوحيد الذي كان داعمًا لي وسندًا، والحمد لله. كانت مسيرتي في البحث والدراسة صعبة للغاية، لم يكن هناك إنترنت، وأي معلومة كنت أحتاجها أضطر للبحث في كثير من الكتب، ناهيك عن المخطوطات الصعبة، وغير المفهومة التي تحتاج لوقت لفك الخط وتفسيره.

وأيضًا لم أكن أستطيع جمع كل ما أريد من كتب في البيت، فكنت أذهب إلى مكتبة الجامعة أو المكتبة العام بالقرب الحرم المكي، وإن لم أجد الكتاب في قسم الإناث. كان زوجي يذهب، ويصور ويطبع لي ما أردت من الكتب الموجودة في قسم الرجال، كان يساعدني ما استطاع حتى في فك خط المخطوطات وتفسيرها، جزاه الله كل الخير والرحمة. تخرجت مع مرتبة الشرف مرة أخرى، وانبهرت اللجنة برسالتي. وبعد إنهائي لها ومناقشتها ذهبت مباشرة إلى فلسطين واستقريت هناك، ولم أستطع تنفيذ توصية الأساتذة في طباعة الرسالة التي كانت عبارة عن ١٢٠٠ صفحة.

نحن نحب أوطاننا لأنها أوطاننا؛ لا لأنها الأجمل ولا الأفضل، ثم إن الفلسطينيات ككل نساء الأرض لسنَ امرأة واحدة، فيهن نماذج تجدينها في كل المجتمعات، ولكن عظمة المرأة الفلسطينية نابعة من عظمة قضيتها التي تحملها وتعمل لها، وليس لأنها تنتمي إلى هذه البقعة من الأرض...

inbound8855306009767175637.png
 

وفي هذا تكمل ضيفتنا: "عندي ابنتين وخمس من الذكور، أحمد الذي يبلغ من العمر 46 عامًا، وهو مصاب بالتوحد، وحتى اليوم أجاهد معه في تربيته ورعايته، يليه مصطفى طبيب متخصص في الجهاز الهضمي، ويعمل حاليًا في أمريكا، يليه المحامي ورجل الأعمال، عبد الله، ثم مهندس الكمبيوتر في حضارة، وآخرهم عبد الرحمن مدير شركة العائلة، وجميعهم متزوجون ولدي 20 حفيدًا، وأنا الآن بانتظار الـ 21 بإذن الله، تحمّل أولادي معي كثيرًا، كنت منشغلة عنهم كثيرًا في الدراسة، ولكنهم كانوا متفهمين إلى جانب زوجي الذي كان لي خير معين.

بالعودة إلى الغربة، كان الناس هنا دومًا يقولون، لا نريد أن نعود، نحن سعيدون في السعودية، وسنظل. أما أنا، فلا أنسى أني كنت أرغب بالعودة قبل حتى أن أضع ابنتي البكر في المدرسة، ولكن شاءت الأقدار أن تدخل هي المدرسة وأنا الجامعة وأظل في السعودية حتى أنهيت الدكتوراه، وعلى الرغم من أنه كان لي مجال للعمل هناك في جامعات السعودية بمكانة مرموقة، ولكن لا شيء أغلى من فلسطين... لا أحب الغربة وأولادي كذلك، حتى ابني الذي يعمل في أمريكا يقول دائمًا أنه سيعود يومًا ما".

| في عالم السياسة

inbound3185304572616092684.png
مريم صالح مع العائلة والأحفاد

درست  وسهرت الليالي الطوال، وهي تعلم يقينًا أنها عائدة مليئة الجعبة، وهذه جعبة متجددة علمًا ومعرفة وحبًا للعطاء. هؤلاء الناس الذين يحبون العطاء من دون مقابل، فضيفتنا تنقلت لتعطي علم الفقه في مساجد القرى، تلتقي النساء بكل الحب، وتجيب على أسئلتهن واستفساراتهن، وهي تتفهم جيدًا تطلعهن لمعرفة المزيد عن فقه الشريعة وأصول الدين، أن المتخصصات فيه قليلات. ولم تقل مريم "لا" قط، لطلاب وطالبات العلم، إذ شاركت في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، تلقي المحاضرات، وتناقش القضايا الإشكالية، حتى حان وقت العمل في دائرة السياسية، ولنقل دوائر الدولة، بعد خوض معارك انتخابية كبيرة.

تقول الدكتورة مريم عن تلك الرحلة: "بعد عودتي، وحتى عام 2005، عملت في جامعة القدس أبو ديس في كلية الدعوة. في ذلك العام، أخذت إجازة غير مدفوعة من الجامعة، والتحقت بالسلك السياسي في الانتخابات التشريعية، فكانت لدي خلفية قبل ذلك في العمل المجتمعي، فكنت رئيسة جمعية الهدىوهي جمعية خيرية ثقافية مجتمعية انبثق منها معهد مريم البتول. وفي عام 2000 تركت إدارتها، لأنه طلب مني أن أعطي دروسًا في المسجد الأقصى مرة أو مرتين أسبوعيًا بتشجيع من الحركة الإسلامية. حيث كانت تسير حافلات يوميًا من الداخل نحو المسجد الأقصى بدعم من الحركة للرباط فيه، تُسمى مسيرة البيارق.

ولهذه المسيرة الحافلة، وقربي من الناس والنساء، خصوصًا، خلق لدي كثير من العلاقات مع الطلاب والشباب ومع الكبار، لذلك رأيت أن أدخل الانتخابات، في ظلال التيار الإسلامي، في قائمة التغيير والإصلاح، وكُلفت بتعييني وزيرة شؤون المرأة.

وبعد شهرين من الانتصار في المعركة الانتخابية، بدأت المناكفات والعراقيل والتضييقات؛ فنحن في دولة الطرف الواحد تفتقر الديمقراطية، وفهمها لذلك في الوزارة. كان هناك تضييق من الموظف الصغير حتى الكبير، وعدم تعاون، وتم قطع التمويل، وإيقاف المشاريع لعرقلة مسيرنا، حتى فنجان قهوة في الوزارة لم نكن قادرين على تحضيره. وبعد ذلك، أُغلقت الوزارة وفُصلنا بعد تهميشها وتهميشنا. ليس من أبناء جلدتنا فقط إلى جانبهم الاحتلال، حتى جاء وقت واعتُقلت فيه. كان الاعتقال بعد أن استقالت الحكومة العاشرة التي كنت فيها، وكنت تفرغت للعمل البرلماني المحاصر. مكثت في الاعتقال 8 أشهر، ولا أنسى وقتها، حين اعتقلت، كيف استُغل غيابي، في عملي ومكاني في الوزارة".

ماذا تقول مريم للنساء أخيرًا في عيشهن بيئات مشروطة بالاحتلال والتضييق؟ "لدينا نساء قويات ومتعلمات في هذا البلد، عليهن الجدّ والعمل وتحدي الظروف أيًا كانت. عليكن خوض الغمار بروح عالية، وإيمان بالله، ولا تتوقفن عن العطاء مهما كلفكن ذلك..".