بنفسج

نور بدر: حكايا الأسيرات أجبرتني التجرد من موضوعية البحث العلمي

الجمعة 03 يونيو

يعنيها في المقام الأول أن تفعل كل شيء يشبهها. فتاة تعود بالذاكرة دومًا لما بعد انتفاضة الأقصى، حين فقد والدها عمله. تذكر جيدًا الحرمان الذي عاشته في تلك الفترة هي وأشقاؤها. لم يذوقوا "اللحوم" لمدة 3 سنوات متواصلة، يوم أن صنعوا أكلة " كفتة" رقصوا فرحًا حول المائدة، ووضعوا شمعة. كان وضعهم المادي صعبًا للغاية، وهذا ترك ندبة في قلبها، حتى أنها عقدت اتفاقية خصومة مع "صينية الكفتة"، ولا تحب أن تأكلها أبدًا، ولا تصنعها إلا إذا طلبها أحدهم منها بشدة.

كبرت الفتاة ودرست الماجستير، وحين بدأت بالبحث عن عنوان رسالتها، أرادت أن تكتب عن شيء يشابه ظروفها، فوجدت أن الأسيرات يتشابهن معها في هذه الحكاية الصغيرة، يُحرمن من تذوق ما يردن، وصنع ما يشتهين من طعام، حياتهن مقيدة، ويفرحن إن دخل إليهن شيء جديد لم يعتدن عليه. فاختارت أن تُجري رسالة الماجستير عن قضيتهن، فكان عنوان رسالتها "التهميش المركب: عن روايات المعتقلات الفلسطينيات في الأسر"، أرادت أن تسمع قصصهن وآلامهن. فاكتشفت أن شغفها العمل الميداني، تُحب الاستماع للروايات الشفهية والتي حللتها بناءً على ربطها بالنظرية.

| العمل الميداني

نور بدر من قرية بيت لقيا قضاء رام الله، حاصلة على البكالوريوس من جامعة بيرزيت في تخصص علم الاجتماع، والماجستير في برنامج النوع الاجتماعي والتنمية. اختارت أن تُجري رسالة الماجستير عن قضية الأسرى.
 
 فكان عنوان رسالتها "التهميش المركب: عن روايات المعتقلات الفلسطينيات في الأسر"، أرادت أن تسمع قصصهن وآلامهن. فاكتشفت أن شغفها العمل الميداني، تُحب الاستماع للروايات الشفهية والتي حللتها بناءً على ربطها بالنظرية. 
 
دومًا كانت تردد: "تخيل أن تخرج من السجن ويبقى شيء منك هناك قابعًا لا يفارقك، وأنت الذي كنت تنتظر اللحظة التي تتخلص فيها من كل تفاصيل هذا المكان".

نور بدر من قرية بيت لقيا قضاء رام الله، حاصلة على البكالوريوس من جامعة بيرزيت في تخصص علم الاجتماع، والماجستير في برنامج النوع الاجتماعي والتنمية. تقول نور لـ "بنفسج": "بدأت بالعمل على رسالة الماجستير في عام 2018، كنت خلال تلك الفترة حاملًا بتوأمي "كامل وأحمد". حينها، لم تكن لدي قوة جسدية كبيرة، ولكن كنت أمتلك الإرادة، استطعت أن أفعل معها الكثير، تنقلت بين أكثر من موقع، وأجريت ثلاث عشرة مقابلة مع أسيرات فلسطينيات محررات".

ومع أن نور درّبت نفسها جيدًا على العمل الميداني إلا أن وقع المقابلات مع الأسيرات كان قاسيًا على قلبها، توقف المقابلة لتبكي بعنف، ثم تمسح دموعها بقوة واهنة وتعود لسياق الحديث من جديد، تضيف: "حين تعبر لي الأسيرات عن مدى اشتياقهن لأطفالهن خارج حدود السجن، كنت أشهق بصوت مرتفع، وهن يتوقفن عن الحديث لتهدئتي".

يُحدثن نور عن كل شيء لحظات العشاء الأخير قبل الإفراج، وهي المناسبة التي تتجمع فيها الأسيرات لوداع زميلتهن وتحميلها الرسائل. نور دومًا كانت تردد: "تخيل أن تخرج من السجن ويبقى شيء منك هناك قابعًا لا يفارقك، وأنت الذي كنت تنتظر اللحظة التي تتخلص فيها من كل تفاصيل هذا المكان".

"تجربة السجن تجعل منك إنسانًا قويًا للغاية، وهشًا للغاية، وجدت أن تجربة السجن كان لها أثر على حياة المعتقلات، كانت تجربة سيئة، الجميع تمنى ألا يعايش أحد هذه التجربة، لأن هذه التجربة تتجاوز عالم البطولة بكثير إلى ألم نفسي داخلي كبير.

"تجربة السجن تجعل منك إنسانًا قويًا للغاية، وهشًا للغاية، وجدت أن تجربة السجن كان لها أثر على حياة المعتقلات، كانت تجربة سيئة، الجميع تمنى ألا يعايش أحد هذه التجربة، لأن هذه التجربة تتجاوز عالم البطولة بكثير إلى ألم نفسي داخلي كبير، وفي ذات الوقت قوة، فأكثر ما يمكن أن يعانيه الإنسان هو بطش السياسات الاستعمارية، ومع تجربة السجن، وجدت أن الأسيرات أصبحن أكثر صبرًا وحكمة". هذا ما قالته إحدى الأسيرات لنور في مقابلة معها.

كان وقع كل المقابلات قاسيًا على الباحثة نور، بكى قلبها مرارًا، المواقف عديدة ووجع الأسيرات أكبر من أن يُحكى في بضع سطور، تروي لـ "بنفسج": "أكثر قصة أبكتني هي قصة روتها لي أسيرة عن أسيرة أخرى، هذه الأسيرة أم، ومعها في الزنزانة أربع أمهات أيضًا، استيقظت في منتصف الليل تبكي بصوت مرتفع، حزنًا واشتياقًا لأطفالها، حاولت باقي الأسيرات تهدئتها، ولكن في ثوان معدودة، امتلأ المكان بدموع الأمهات، وآهات الفراق، ومن روت لي القصة أسيرة عزباء كانت معهن".

| نتائج الدراسة وكرة الثلج

 

أما عمّا توصلت إليه دراسة نور بعد تحليل عميق وتساؤل رئيسي، كيف أن الثقافة المحلية والقيم الاجتماعية تضع المعتقلات في بوتقة كبيرة، بوتقة بداخلها كل قيم البطولة والشجاعة، فتضع هذه القيم فوق قيم الإنسانية.

أظهرت الدراسة حسب العمر الزمني للمقابلات (1985-2019)، أن هناك عمقًا قويًا بين التجربة الفردية الوطنية والامتداد الشعبي والاجتماعي خلال منتصف الثمانينات، وأن هذا العمق أخذ بالتلاشي شيئًا فشيئًا.

تقول نور "في كتابتي عن موضوع الأسيرات، تجردت من كل ما يسمى الموضوعية في البحث العلمي، واتخذت موقفًا ملتزمًا من ما تعرضت له هؤلاء الأسيرات، وأعتبر بأن تجاربهن هي تجارب مهمشة".

لكل هدف نصبو إليه دائمًا عدة معيقات، نور كانت العقبة الرئيسية التي واجهتها هي الحصول على ثقة الأسيرة، أن يتحدثن لها بأريحية دون خوف، تقول: "اعتمدت في إجراء المقابلات على أسلوب كرة الثلج، وليس على الجهات الرسمية والمؤسسات التي تُعنى بالأسرى، وتمكنت من إنشاء علاقة صداقة بيني وبين الأسيرات، علاقة الصداقة هذه احتوت بداخلها ثقة، لا زلت حتى هذا اليوم أسأل عن أحوالهن، وأطمئن عليهن".

تشرح نور عن أسلوب كرة الثلج، وتسهب: "هو الأسلوب الأقرب للحصول على ثقة المعتقلة، لأنني أتعامل مع تجربة حساسة قد تتعرض بسببها المعتقلة للتضيق في الحديث، إما من الدائرة المحيطة، أو خوفًا من إعادة اعتقالها، ناهيك عن صعوبة الحصول على بيانات رسمية من مؤسسات رسمية، إذ يتطلب ذلك إجراءات كثيرة، تم تزويدي بأسماء أسيرات، في العادة نألف حديثهن، وسمعنا عن تجاربهن، ولكن ما أردت الحصول عليه هو الأسيرات المهمشات اللواتي لم يروين تجاربهن، أو تحدثن عنها بصورة ضيقة، أردت إخراج هذه الأصوات".

q1 (2).png

تكمل لـ "بنفسج": "في كتابتي عن موضوع الأسيرات، تجردت من كل ما يسمى الموضوعية في البحث العلمي، واتخذت موقفًا ملتزمًا مما تعرضت له هؤلاء الأسيرات، وأعتبر بأن تجاربهن هي تجارب مهمشة، بل أتعامل معها كحالة تهميش مركب، تهميش اجتماعي وسياسي، وقمع الاستعماري الذي يتمثل بالسلطة الاستعمارية الصهيونية على الأرض، واختزال الصوت الذي يقوم على محاولة اختزال أصوات المعتقلات بصوت واحد أو أكثر، ممن يقعون في دائرة قيادة الحركة المعتقلة خارج السجن".

أما عمّا توصلت إليه دراسة نور بعد تحليل عميق وتساؤل رئيسي، كيف أن الثقافة المحلية والقيم الاجتماعية تضع المعتقلات في بوتقة كبيرة، بوتقة بداخلها كل قيم البطولة والشجاعة، فتضع هذه القيم فوق قيم الإنسانية. أظهرت الدراسة حسب العمر الزمني للمقابلات (1985-2019)، أن هناك عمقًا قويًا بين التجربة الفردية الوطنية والامتداد الشعبي والاجتماعي خلال منتصف الثمانينات، وأن هذا العمق أخذ بالتلاشي شيئًا فشيئًا، وتحوّل هذا التضامن باتجاه يمكن وصفه فردانية القضية، بمعنى أنها تخص الفرد وعائلته المحيطة.

 تقول نور: "الدراسة توصلت إلى أن الأساليب الاستعمارية داخل المعتقل مبينة بشكل أساسي على الحرمان، الحرمان من العلاج، من حقوق المعتقل في توفير وجبات صالحة للأكل، حقه في رؤية أهله وجهًا لوجه، وغيرها من الحقوق. إن الحرمان يقوم هنا بشكل أساسي على خلق الألم لدى المعتقلات، الألم الذي يتراوح غالبًا بين الإعطاء وعدم الإعطاء، هذا بحد ذاته قادر على إبقاء المعتقلة على قيد الحياة، ولكنها حياة مظلمة. أما المعتقلات، فقد شكّل التضامن الوسيلة الأبرز للتغلب على هذا الحرمان، وذلك عندما يذوب الألم الفردي في الألم الجماعي، تصبح الصداقة المبنية على الألم أقوى وأمتن من الصداقة المبينة في وضعها الطبيعي".

| رواية الأسيرات

فيما يتعلق بآليات السيطرة، فقد أظهرت الروايات تعمّد السياسات الاستعمارية السيطرة على الجسد، من خلال استخدام العنف ضده، فأظهرت بعض الروايات أن المعتقلة قد تعرضت للعنف الجسدي أو الجنسي، أو الاثنين معًا، هذا العنف بنى نفسه على انتهاك جسد المعتقلات كـ"نساء" في الثقافة المحلية.

تكمل الباحثة نور: "تتجلى مساهمة هذه الدراسة في أنني لا أتبنى أي نوع من أنواع الخطاب، فلست مع خطاب حقوق الإنسان، أو الخطاب القانوني، أو الخطاب النفسي، أو خطاب الضحية والجلاد، أو خطاب التمجيد. ولا أحاول من خلال الحصول على هذه الأصوات، وإعادة صياغتها، لغرض التعاطف معها أو تمجيدها، إن ما أسعى له هو محاولة الحصول على هذه الأصوات، ووضعها كما جاءت بلغتها الأصلية، ثم محاولة تحليل هذه الأصوات من خلال ربطها بالنظرية، بحيث تأتي النظرية كمحاولة لفك القضايا والدلالات التي حملتها هذه الأصوات، والتي من شأنها أن تخرج هذه المعارف المقموعة، المعارف التي تأتي من الهامش، وتبتعد عن المركز".

تقول نور للراغبين والراغبات باستكمال دراسة الماجستير، إنه ليس شهادة للعمل بل هو معرفة، هذه المعرفة تأتي بالبحث بالدرجة الأولى، والتحليل، وهذا ما توفره رسالة الماجستير، لذلك، أنصحهم/ن بالمضي قدمًا في هذا الطريق.

بعد شهور من الجد والاجتهاد والبحث والعمل الميداني، أنهت نور رسالتها، وجاء وقت التحضير للمناقشة، خصصت قبل يوم المناقشة بثلاثة أسابيع، ساعة يوميًا للتدرّب على طريقة طرح الأفكار التي توصلت لها، ويوم العرض أثنت اللجنة على رسالتها مما أسعدها. وعن المشجع الدائم لها، تقول نور: "أعتبر بأن هذه الرسالة هي جهد مشترك لي مع الدكتورة لينا معياري، وهي من أقرب الناس إلى أفكاري، وصديقة شخصية لي. معًا، استطعنا اجتياز هذه المرحلة، كانت صعبة، ولكنها كانت الداعم والمساند الأكبر لي".

الباحثة التي خاضت غمار العمل الميداني، واستمعت لروايات الأسيرات، وخاضت تجربة الماجستير برمتها، تأمل إكمال الدكتوراه، والبحث في موضوع الأسرى تحت الاستعمار الصهيوني من جديد. تقول نور للراغبين والراغبات باستكمال دراسة الماجستير، إنه ليس شهادة للعمل بل هو معرفة، هذه المعرفة تأتي بالبحث بالدرجة الأولى، والتحليل، وهذا ما توفره رسالة الماجستير، لذلك، أنصحهم/ن بالمضي قدمًا في هذا الطريق.