منذ يوم الفراق تعيش أنفال أيامًا مريرة، لا يهدأ قلبها أبدًا، ترتجف كلما تذكرت لحظة نزول الصاروخ على بيتها، في كل ليلة تعيش مع هواجسها الأليمة، وتظل تسأل نفسها: أين تلك الأيام التي كنت فيها مثالًا للعائلة السعيدة؟ أين اختُطف الأمان منا؟ أين زوجي عبدالله وأين ابنتي ليال؟ وكلما تخيلت القبلة الأخيرة من صغيرتها ليال قبل استهدافهم بدقائق تشعر أن هبوطًا سيصيب قلبها ليتوقف عن النبض من حزنه... تنظر في وجوه طفليها الناجين زين وخالد فتهدأ، وتطلب الرحمة من الله.
هنا تروي لنا أنفال الرقب عن زوجها عبدالله، وابنتها ليال عندما نال منهما صاروخ إسرائيلي فقتلهما، تحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياتهما، عن إصابتها وتلقيها خبر استشهادهما، وهي على فراش الموت مصابة بجروح في الظهر والعمود الفقري، لكنها نجب بأعجوبة لاحقًا لتكون أمًا وأبًا لطفليها زين وخالد.
يوم أن فارقت الروح
في 22 يوليو 2024، وفي تمام الساعة الحادية عشرة والنصف مساءً، وبينما الحرّ يعصف بأنفال وزوجها وصغارها، وكل ما يودونه أن تهدأ الانفجارات وتأتي نسمة هواء باردة تمسح على أجسادهم المشتعلة حرارة وخوفًا، سقط الصاروخ على رؤوسهم محدثًا انفجارًا عنيفًا، سمعه المحيطون فشهدوا حرارته وتناثر الركام عليهم.
تقول أنفال لبنفسج بصوت أنهكه الوجع: "كنا جالسين سويًا قبلها بدقائق، أخدت أولادي خالد وليال إلى غرفة النوم، وظل زوجي عبد الله جالسًا في غرفة المعيشة، وإذا بالصاروخ يسقط علينا جميعًا، لأصرخ ثم صمت صوتي ولم أعِ ما حدث بعدها إلا بالمشفى".
أُصيب عبدالله زوج أنفال إصابة خطيرة للغاية، واستُشهدت ليال صاحبة الثلاث سنوات فورًا؛ إذ لم يتحمل جسدها النحيل قوة الصاروخ، وأُصيبت أنفال، ونجى الطفلان زين وخالد، تضيف: "لم أودع ليال ولم أقبلها قبلة الوداع الأخيرة، دفنوها دون أن أعانقها عناقًا يروي قلبي المقهور، كنت في غيبوبة أقاتل الموت، وعندما استيقظت من غيبوبتي بعد الحادث ب13 يومًا، أخبرتني شقيقتي باستشهاد زوجي الذي كان مصابًا وفي غيبوبة مثلي".
اقرأ أيضًا: "هذا الرقم آخر من اتصل بهذا التلفون".. عن ضغطة زر قتلت 48 شخصًا
أصرت أنفال على توديع زوجها فأخذوها بسرير المشفى إليه لتلقي نظرة الوداع، بكت وذاب قلبها، فرددت اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها، ثم جابت بنظرها تسأل عن صغارها الثلاثة ليقولوا ليال استشهدت منذ يوم استهدافكم، فبكت بكاء لم تبكه من قبل ولن تبكيه، كما تقول.
بقيت أنفال على سريرها لا تقوى على التحرك، تناجي الله أن يمنحها الصبر والسلوان، وهي ترى زوجها بالكفن، وتسمع خبر استشهاد طفلتها، تردف: "صرت أحكي يارب تصبرني أنت بتعرف قديش بحبه.. قديش بقدرش على الحياة بدونه يارب الصبر، يارب بنتي ارضيني يارب، ابتلائي كبير".
حياة موحشة
بعد عدة أشهر شُفيت أنفال من إصابتها بعد عناء وعلاج مطولان، لكن ندوبها النفسية تزداد وهي وحيدة دون معيل، في ظل واقع حياتي مرير، فهي الآن تعاني التجويع وانهيارًا في حالتها الصحية، تعيش في الخيام، تحرقها الحرارة وصغارها البالغ أصغرهم عامًا ونصف العام، يعانون فقر الدم وغثيان دائم، يصرخون دائمًا بحاجتهم للطعام.
لا تعرف أنفال ما الذي ستفعله لوحدها، لكن سلواها الوحيدة في ليالي الحرب القاسية، ذكرياتها رفقة زوجها، تقول: "أعيش مع الذكريات عساها تهون علي ما أعيشه، أظل أتحدث وأستذكر زوجي عندما كان يسهّل علي الحياة، ويساعدني، لم أشعر بأن هناك شيئًا صعبًا عندما كان حيًا، لكن من بعده شهدت قساوة الحياة ". أما ليال تلك الطفلة بشعرها الأسود الجذاب ووجهها الملائكي، وخدودها الوردية، كانت روح البيت ونوره، تناديها والدتها ب "أميرتي"، تمرح وتنثر الابتسامة في كل مكان.
اقرأ أيضًا: آلاء المصري: أمومة بعد 10سنوات عجاف.. خطفها الاحتلال
تضيف أنفال: "قبل أن نُستهدف بدقائق قبلتني ليال وعانقتني، وهذه كانت لحظة وداعنا الأخيرة، ويعز علي أن أقول الأخيرة، فأنا لا أحب النهايات". الآن، تركض أنفال في معترك الحياة لا تعلم كيف توفر الطعام ولا الحليب لطفليها، يأتيها زين صاحب الست سنوات ويقول بصوته الطفولي: "ليه أخدوا اليهود مني بابا وأختي ليال.. أنا اشتقت إلهم بدي أموت وأروح عند بابا وليال.. إحنا مطولين يا ماما لما نروح عندهم".