السبت 11 مارس
"أبوكي أخدوه الجيش" كنت ابنة الخمس سنوات حين أخبرني طفل من أقاربي بهذا الخبر وأنا في طريقي للمنزل بعد روضتي، في أيلول من العام 1995، كان هذا الهم مبكرًا جدًا على قلبي الصغير، علمت حينها كيف تتبدل الحياة في لحظة وأن لا ضامن في هذه الحياة، كُتب علينا نحن الفلسطينيون أن نعيش كل شيء قاس، التهجير، والاعتقال، والتنكيل، واحتلال لا يرحم. رجل رزق بتوأمين في يوم اعتقاله، لم يحفظ ملامح الصغيرين بعد، لم يستقبل المباركين، لم يشاهدني حين أغار منهم حين يحمل إحداهم وأنا واقفة.
أنا ابنة الأسير إبراهيم شلش، نعم كنت طفلة حين اعتقل، لكني كنت أشعر أنه سيغيب عني لسنوات طويلة، وبالفعل اُعتقل وحكم عليه بالسجن المؤبد و 35 عامًا، ما يعني أن نكون تحت سماء واحدة وأرض واحدة ويفصلنا جدار وجدار ألعن مما وجد في الحياة، أنه ألم لا يستوعبه العقل البشري، أن يكون والدي على قيد الحياة بصحته سالمًا، ويفرقنا احتلال لعين، أحيانًا أو دعوني أقول دائمًا تمنيت أن أكون فراشة لأطير حيث يكون أبي في عزله الإنفرادي الذي وضع فيه مرات ومرات خلال مدة سجنه لأطبطب على قلبه، وأبكي سنواتنا المرة، سأخبره بأني اشتقت لحنانه وأن يوصلني لروضتي حيث كان معنا، سأخبره عن كل همسة وحركة فعلتها في يومي.
أذكر جيدًا حين كان يقبلني على باب روضتي ويمسك يدي ويضع فيها قطع الشكولاته، ويقول لي بصوته الحنون: "بدي تكوني شاطرة دايما، وبنت أبوكي". مرت الأعوام وكلما كبرت أصبحت "بنت أبي" بكل ما تعني الكلمة. أشبهك يا أبي نعم أشبهك. كنت أذهب لزيارته مع أخوتي الصغار لوحدنا، لأن كل العائلة تقريبًا ممنوعين من الزيارة بقرار من الاحتلال. وفيما بعد تم رفضي أنا وأخوتي أمنيًا، ومنعنا من الزيارة.
مرت الساعات والأيام ثقيلة على قلبنا حتى صفقة تبادل الأسرى "وفاء الأحرار" في 2011، أفرج عن والدي واستقبلناه استقبال مهيب، لا أدري كيف مرت الليلة التي تسبق حريته، كنت انتظر وانتظر، متحمسة لرؤيته واحتضانه، أرتب كلماتي التي سأقولها له، وحين رأيته، عانقته بشدة عناق كل الأعوام الماضية، مئات الناس في حفل الاستقبال ينتظرون احتضانه، وأنا متمسكة به لا أرغب بتركه فقد حرمت ما يكفي من حنانه 17 عامًا، بكيت دموع الفرح لأول مرة في حياتي بهذا الصدق، قال لي: "ما تبكي يابا"، فأجبته: دموع الفرح والله.
بعد يومين من عيدنا الأول باللقاء أخبرني أنه كان ثابتًا قابضًا على دموعه في لحظة اللقاء ولكن حين احتضنني أنا سقط الجدار وبكى وترك العنان لدموعه أن تفيض، قال لي: ما قدرت يابا عندك أنتِ بالذات أمسك دموعي". كان أبي مشتاقًا للأرض، للزرع، للشمس، والهواء، جل وقته كان في وسط الباحة الخضراء، يزرع وروده ويهتم بكل الزرع الموجود في أرضنا. وحين سقط الثلج في شتائنا الأول بعد الحرية لا أنسى كيف فرح به، شعرته طفل صغير، يا الله كم الأسرى محرومين خلف الأسوار البغيضة من أبسط الأشياء.
افتقدته في كل مراحل حياتي، كل نجاح، حزن، ألم، فرح، في حفل تخرجي من الجامعة من حسن حظي أنه كان معي، لم أرد من الدنيا شيئًا حينها، رأيت في عينيه فخره بي، ألبسته قبعة تخرجي واحتفلنا سويًا لأول مرة.
ولكن بعد عامين من الحرية، أُعيد اعتقال أبي مرة أخرى وحتى هذه اللحظة يقبع في سجون الاحتلال، انقلبت حياتنا مرة أخرى، وسأعاني من جديد من كل الألم السابق، آخر مرة زرته منذ ست سنوات قبل حفل زفافي بأسبوعين، بكيت يومها كأني لأول مرة أعرف البكاء، تمنيت أن يكون معي في حفل الزفاف لكن قدر الله غالب، وها أنا ممنوعة من زيارته بحجة المنع الأمني، أنتظر من جديد أن يعود لنا غانمًا سالمًا.
مؤخرًا، أصيب بفايروس "كورونا" وتم وضعه في قسم العزلة عاني كثيرًا، ولكن ما ساعده أنه رجل رياضي يمارس رياضته كل يوم، والحمدلله الآن هو بصحة جيدة، تغلب على "كورونا"، وسيتغلب بإذن الله على الاحتلال وسيخرج لنا قريبًا وسنحتفل بتحرره في وسط الورود الذي زرعها في أرضه.