الأربعاء 17 مايو
لا أنسى حين راهنني أحدهم أني سأنزع الجلباب يومًا ما طالما أني أعمل صحفية في الميدان ، ولكن باءت تلك الرهانات بالخسارة، فقناعتي أن لباسي لا يعيق حركتي، خصوصًا أنه فضفاض بالشكل الذي يريحني في الحركة بشكل تام، لأن عملي يتطلب مني الجري بسرعة هربًا من الرصاص الغادر. لطالما حافظت على لباسي وما زلت أحافظ عليه، وسأظل لأن ديني بالنسبة لي قبل أي شيء، وحتى لو شعرت يومًا أنه معيق حقًا، سأجد الحلول التي تحول دون نزعي له مهما كلف الأمر.
أنا سجى العلمي ٢٩ عامًا، مراسلة صحفية، ومنتجة قصص صحفية وتقارير، وأعمل بشكل رسمي مع فلسطين بوست وجهات أخرى مراسلة حرة. اخترت الصحافة لأنها حلمي منذ الطفولة، كنت أرى في صغري كيف يعمل المراسلون أثناء الانتفاضة الثانية، وكيف يكابدون لأجل نقل الحقيقة والوضع الفلسطيني للفلسطينين خصوصًا في ظل الانقطاع عن العالم أثناء الا.جتياح، وللعالم أجمع في ظل هيمنة الاحتلال وقوة دعايته.
كنت أرى فيهم الشجاعة المتناهية، وكنت أراهم، ومازلت، جنود المقاومة الذين كانوا يخدمون القضية بشكل كبير يعادل قوة الرصاصة عبر فضح الا.حتلال ونقل الحقيقة. ظل الحلم يرافقني حتى كبرت وحققته، فالتحقت بكلية الصحافة في جامعة أبو ديس عام ٢٠١٣.
يسألوني "ما بتخافي..؟!" لا شك، أنا في النهاية بشر، أخاف على روحي ونفسي من الأذى، ولكن بالحد الطبيعي، فتراني آخذ الاحتياطات اللازمة وأباشر مسرعة للميدان في حال كان هناك اشتباكات واشتعال في نقاط التماس.
اخترت الميدان ونقاط الاشتباكات بشكل خاص، لأني كفلسطينية، أحمل على كاهلي تبليغ الرسالة، والدفاع عن قضيتي، ووجدت في الميدان المشتعل بالاشتباكات، خصوصًا ما ارنو إليه، فهذا المكان الأكثر اشتعالًا على الإطلاق، حيث تهوي الرصاصات محاولة اغتيال الحقيقة في أحقية هذا الشعب على أرضه.
أكثر ما أسمعه من انتقادات في مجالي يدور حول لباس، فأنا أرتدي تحت بزة الصحفي الجلباب، والمتعارف عليه في فلسطين بالباس الشرعي التام، فكانوا دائمًا يقولون: ارتدِ ملابس قصيرة حتى تتحركي بسهولة أكبر.
وصحيح، كان هناك مراهنين على لباسي ومنتقدين له، في المقابل، اعتبرتني كثيرات ممن يردن امتهان هذه المهنة من دون التخلي عن لباسهن الشرعي، دافعًا إيجابيًا، ومحفزًا لهن في الوسط الصحفي الذي عادة تقل فيه أعداد الفتيات اللواتي يرتدين لباسًا شرعيًا تامًا. لطالما كنت أنشرح عندما أفتح البريد الوارد لدي لأرى رسائل بعض الفتيات اللواتي شكرن بي، وأخبرنني كم كنت محفزة نفسيًا ومعنويًا جيدة لهن.
أصعب موقف مررت به يومًا حين كنت بتغطية مواجهات في سبسطية ففاجأنا مستو.طن يحمل سلاحًا، وأطلق النار بشكل مباشر باتجاهنا، وكانت نجاتنا معجزة من الله. وفي موقف آخر لا أنساه يومًا عندما كنت في تغطية اقتحامات لقرية سلواد، وفي لحظة ما، اصطدم جب عسكري بقوه بحائط، وتجمع عليه الشبان بالحجارة، فما كان منه إلا أن بدأ باطلاق النار بشكل عشوائي جدًا. واستنفر الجيش وحاصرنا داخل مبنى، ويومها كانت الوقت متأخرًا جدًا من الليل. فقفزت من مسافة عالية للهرب من الجنود، ولولا ستر الله ولطفه، لكنت في حال سيء، وربما في عداد الموتى يومها.
ولا شك أن من بين المواقف الصعبة، هناك لحظات جميلة ومواقف لا تنتسى في مهنتي، مثل يوم تغطية اقتحا.مات المسجد الأقصى قبل معركة سيف القدس. يومها كانت الأحداث صعبة جدًا علي كفلسطينية ومسلمة أرى المسجد الاقصى يُدنس ويُهان دون رادع، حتى جاء الرد من المقاو.مة يوم ٢٨ رمضان، وقصفت مستو.طنات القدس. شعرت بالهيبة والانتصار كما شعر كل فلسطيني يومها، وخصوصًا من كان في القدس. فغطيت الحدث بشقيه الأليم المنكسر والقوي والمنتصر.
جدعة.. بمية زلمة.. أخت رجال.. أجمل الكلمات التي اسمعها وتظل محفورة في نفسي لوصف من حولي لي لتعبيرهم عن وظيفتي واستمراري فيها بشكلي، وخصوصًا مع كوني أنثى. خوف أهلي كان شديدًا جدًا، في البداية، وفيه معارضة مبطنة لما أفعله، ولكن مع الوقت، تقبلوا مهنتي وعملي كوني اخترتها عن قناعة.
أكبر طموحاتي أن أصل بمهتني إلى الحد الذي أرى فيه الظلم ينتهي، والا.حتلال يموت، والحقيقة ساطعة كالشمس يصدقها كل العالم. وأقول لكل من كان لديه حلم، ومؤمن به أن لا يتركه ويسعى لتحقيقه، ويضع كلام الناس وانتقاداتهم غير البناءة في مكان بعيد عن ما يطمح له. ومهما كانت هناك صعوبات ومعيقات، بالإصرار والعمل، سيتحقق والأهم، وقبل كل شيء، رضا رب العالمين والأهل.