بنفسج

عندما رحلت شيرين.. لم نعد أطفالًا

الأربعاء 17 مايو

عندما فقدنا شيرين هرمنا كما لم نهرم من قبل، وأوجعتنا ذاكرتنا الممتدة خلف شاشات التلفاز تتابعها في جولاتها الإعلامية، كانت شيرين جزءًا من طفولة الجيل الجديد تبسط له مفاهيم الوطن وتكشف له صرخات الألم الممتدة عبر تضاريسه إلى أطراف حدوده. فكيف لطفولتنا أن تُعدَم هكذا! إن الرصاصة التي أُطلقت على شيرين أصابتنا جميعًا وأوجعتنا جميعًا. ولكنَّ مثلَ شيرين لا يرحل بسهولةٍ، فبموتها أحيت قضية فلسطين التي عاشت لأجلها، وأنبتت في قلوبنا جميعًا ياسمين النقاء الذي كنّا نراه شفافًا في وجهها البريء.

يقول محمود درويش: ما هو الوطن؟ هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض. ليس الوطن أرضًا، ولكنه الأرض والحق معًا. الحق معك، والأرض معهم. يفجعنا الموت كل يوم، لا نكاد نتعافى من جرح إلا ووابل من سهام الألم تنصبّ علينا، حتى أصبح الموت والفقد روتينًا يوميًا يمثّل حياة الشعب الفلسطيني، إن الوطن في عيوننا يختلف ُمن جيلٍ لآخر ومن يومٍ ليوم؛ نراهُ خليطًا من المشاعر، وطيفًا من ألوانٍ بعضها يشبه الحياة والآخر يتحايل عليها.

ولكنه كان دائمًا ذاكرة نرسمها ونحن أطفالًا، ونكبر معها وعليها؛ بالنسبة لي كان الوطن الضفةَ الأخرى من حكايات الطفولة، وظلّ السنديان والخروب، ونساء يتوشحن الوطن في تفاصيل كحلهن وعلى أهداب ثوبهن، يعرف الوطن هؤلاء النساء ويرسم معهن خارطته وحدود قلبه وأوردته.

كانت شيرين أبو عاقلة شريانًا نابضًا في هذا الوطن، وامرأةً قدّمت نفسها وعمرها ترصد كلَّ ما يحدث على أرضه، اختارت مهنتها بتصميمٍ ورغبة، أرادت أن تكون جزءًا مما يحدث في الصورة، اختارت أن تظهر في مقدمة الأحداث كي تروي المشهد بصدق، كي تثبت للوطن أنها لم تختر الصمت وإنما آثرت الكلام.

في كلّ مرةٍ وقفت فيها أمام الكاميرات، كانت تعلم لربما هي صورتها الأخيرة وصوتها الأخير، لكنها لم تستسلم، كانت مقبلةً دائمًا لا مدبرة تقول: "فقط اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان، ليس سهلًا، ربما، أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم".

كانت شيرين، ابنة القدس الأبية، أيقونةً إعلاميةً فلسطينية ونخلةً شامخة من طفولتنا، تعرفنا من خلال تقاريرها الصحفية إلى الوطن وجراحه، ولامست بكلماتها آهات الوطن، كانت نموذجًا للمرأة الفلسطينية التي اعتدنا عليها جسورةً شجاعةً حرًة تواجه الموت كلَ يوم، ولكنها تهزمه بالأمل، تهزمه بأن تؤجل موعدها معه، علّها ذات يوم تعلن خلف ميكروفونها موعد الحرية المنتظر وتزفّ إلينا تباشير الخلاص.

عندما فقدنا شيرين هرمنا كما لم نهرم من قبل، وأوجعتنا ذاكرتنا الممتدة خلف شاشات التلفاز تتابعها في جولاتها الإعلامية، كانت شيرين جزءًا من طفولة الجيل الجديد تبسط له مفاهيم الوطن وتكشف له صرخات الألم الممتدة عبر تضاريسه إلى أطراف حدوده. فكيف لطفولتنا أن تُعدَم هكذا! إن الرصاصة التي أُطلقت على شيرين أصابتنا جميعًا وأوجعتنا جميعًا. ولكنَّ مثلَ شيرين لا يرحل بسهولةٍ، فبموتها أحيت قضية فلسطين التي عاشت لأجلها، وأنبتت في قلوبنا جميعًا ياسمين النقاء الذي كنّا نراه شفافًا في وجهها البريء.

إننا لم نفرّق يومًا بين مسلمً أو مسيحي على أرض هذا الوطن، ولم نحم مسجدًا دون كنيسةٍ، وإنما وقفنا صفًّا واحدًا في وجه عدونا، وها نحن اليوم نعلم أن شيرين التي هي منّا قد قدمت للعذراء باقة وردٍ في عيدها ثم ارتقت شهيدةً على أرض جنين أرض الأبطال، لتثبت لنا أنها كانت بطلة هي الأخرى ومرآةً حرّةً للحقيقة، فاليوم، باستشهادها، ربما غابت هي عن الصورة، ولكنها أظهرت لنا الحقيقة كاملة قبل أن ترحل: إنَّ عدوًا لا يفرق بين مسلم أو مسيحي لا يمكنه أن يكسر وحدة الشعب باختلاف عقائده أو طوائفه؛ نحن جسدٌ واحدٌ أمام الظلم وإرادتنا تزداد قوةً بعد رحيلك يا شيرين فثأرُنا يكبُر.

يقول الكاتب الروماني شيشرون: لست آسفًا إلا لأنني لا أملك إلا حياة واحدة أضحي بها في سبيل الوطن. نحن لم نبكِ يومًا أبطالنا وإنما نزفّهم قوافل من الياسمين كي نعطّر الوطن... وداعًا أيها الشهداء.