بنفسج

إيبرو أوزكان: ورحلة ثلاثين يوما في سجون الاحتلال

الجمعة 12 يونيو

كيف يستطيعُ الإنسانُ أن يتعلقَ بأرضٍ ليست أرضه، وأن يكون شوقهُ لها غالبًا على ظروفٍ كثيرة حولهُ تمنعهُ عنها، وأن يغدو الشوقُ حبًا، وطريقًا يأخذُ سائرهُ إلى سجون الاحتلال!

قبل ثلاث سنوات، أتت الفتاة التركية إيبرو أوزكان (27 عاما) من إسطنبول إلى القدسِ برفقةَ مجموعة سياحية، أقامت بين أهلها وصلوا في المسجد الأقصى أيامًا من شهر رمضان. هذه الزيارة كانت بعد سنواتٍ من حبٍ كبيرٍ عاشتهُ إيبرو كحلمٍ بعيدٍ المنال، غدا بين ليلة وضحاها حلمًا حقيقيًا تعيشهُ بكافة تفاصيله، ليصبحَ بعد ذلك عادةً سنوية لها. فغدت تعيشُ أيامًا من شهر رمضان كل عام، في مكانٍ أحبتهُ وعرفت تفاصيلهُ، تصلهُ وتشدُ رحالها إليهِ محملةً بدعوات وصلوات، وفيض من حب.

هل تخيلتِ يومًا أن يعتقلكِ الاحتلال، سألت "بنفسج" إيبرو، فأجابت :"تخيلتُ أن يمنعوني من دخول فلسطين، لكن لم أتخيل أن أعتقل، خصوصًا أنني آتي كل عام مع مجموعة كبيرة، وأحصل على تأشيرة الدخول كالآخرين".

| أنتِ معتقلة!

 
أيبرو أوزكان فتاة تركية تبلغ من العمر 27 عاما، جاءت لتزور القدس وتحيي لياليه في المسجد الأقصى، ليعتقلها الاحتلال أثناء عودتها. تم استجوابها في المطار لمدة تزيد عن 8 ساعات، ثم تم نقلها إلى مركز تحقيق "بتاح تيكفا". حُرمت من زيارة محاميها الخاص لمدة 16 يوما، وتم اتهامها بتهم سخيفة كتهريب العطور لحركة حماس.

كان يوم الــ 11 من حزيران من عام 2018، موعد مغادرة إيبرو القدس للعودةِ إلى إسطنبول، حين أوقفها الاحتلال. تقول ل"بنفسج": "كنتُ على وشك الصعود إلى الطائرة حين أوقفني شخصٌ من المطار، وطلب مني مرافقته، قائلًا أنه يريد ان يسألني بضعة أسئلة، كانت صديقتي (ملك) معي، وبدت مستغربة من هذا الإجراء، لكنني قلتُ في نفسي بأن الشيء الذي خفت منه، سيحصل وهو أن الاحتلال سُيعطيني قرارًا يمنعُ عودتي إلى فلسطين، وهذا كلُ ما خطر ببالي".

" إنتو اطلعوا على الطيارة، وهي بتيجي على الطيارة الجاي"، كانت هذه الكلمات التي قالها الرجل الذي اصطحب إيبرو، وتبين فيما بعد أنه ضابط "إسرائيلي"، ووعد أن إيبرو ستحتجز لفترة ومن ثم ستغادر إلى إسطنبول على متن الرحلة التالية، نظرا لكثرة الرحلات اليومية من مطار "بن غوريون" إلى إسطنبول، الأمر الذي مكّن المجموعة المرافقة لإيبرو من المغادرة، أملا في انضمامها إلى الرحلة التالية.

تروي إيبرو ل"بنفسج" :"بعد أكثر من 8 ساعات استجواب في المطار، أبلغوني أنني معتقلة، لم أستوعب الأمر في البداية، ولم أعرف ماذا يجب أن أفعل، كان الأمرُ صادمًا جدًا، فأنا لم أتوقعهُ أبدًا، طلبتُ أن أتحدث مع أهلي، لكنهم قالوا لي بأنهم هم سيتحدثون ويبلغونهم، وأنا خفت على أهلي من الخبر، فاتصلتُ بصديقةٍ لي، حتى تبلغ أهلي".

كانت الساعات الأولى قاسية على إيبرو، حيث تم نقلها من المطار مباشرة إلى مركز تحقيق "بتاح تكفا" ليبدأ معها تحقيق امتد لساعات طويلة، لم يراع فيه الاحتلال أي قانون، بالإضافة إلى منعها لقاء محاميها لمدة 16 يومًا بأمر عسكري. جرى التحقيق مع إيبرو باللغة العربية، على الرغم من أنها ليست لغتها الأم، فهي تتقنها ولكن ليس بشكل كاف، ليُدار بها تحقيق حساس مطوّل، إضافة إلى أن العربية لم تكن لغة المحقق الأم، الأمر الذي شكّل ضغطًا من نوعٍ آخر عليها.

| تركية بمعاملة فلسطينية

" كانوا يضعون القيود في يدي وقدمي حينما أتحرك، وحين أذهب إلى المحكمة، وكنتُ أقضي كل الوقت في التحقيق، ثم يعيدونني إلى الزنزانة وقت الطعام، كنتُ أستطيعُ في ذلك الوقت أن أصلي، قبل أن يعودوا للتحقيق مرة أخرى"

حُقق مع إيبرو حول تهم سخيفة ومضحكة، حيث اتهم الإدعاء العسكري في محكمة سالم الاحتلالية إيبرو بارتباطها بتنظيمات معادية ل"إسرائيل"، وتعريض أمنها للخطر، من خلال نقل زجاجات عطور من إسطنبول لفلسطين، ونقل مبلغ مادي لا يتجاوز ـ500 دولار!

فيما تمحورت التهمة الثانية حول تسليم إيبرو لشاحن هاتف خليوي، جلبته من زميلها في العمل بمركز للأبحاث في إسطنبول، إلى صديقه في الضفة الغربية المحتلة، على الرغم من أنها التقت بصديق زميلها، ولم تسلمه الشاحن الوارد في لائحة الاتهام.

لم يشفع لإيبرو أن تكون تركية الجنسية في أيّ معاملةٍ مختلفة من الاحتلال، وإنما كانت سابقةً في تاريخه بأن عوملت كما يُعامل الأسرى الفلسطينيون، حيث عُرضت على المحاكم العسكرية، بالرغم من كونها أسيرة مدنية، الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسات الحقوقية التركية، ما أدى إلى حراكٍ واسعٍ على صعيد العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والاحتلال.

" كانوا يضعون القيود في يدي وقدمي حينما أتحرك، وحين أذهب إلى المحكمة، وكنتُ أقضي كل الوقت في التحقيق، ثم يعيدونني إلى الزنزانة وقت الطعام، كنتُ أستطيعُ في ذلك الوقت أن أصلي، قبل أن يعودوا للتحقيق مرة أخرى"، تقول إيبرو.

| يوم واحد مع الأسيرات قبيل العودة للوطن 

 
عُمِلت أوزكان كما يُعامل الأسرى الفلسطينيون، فتعرضت للمحاكم العسكرية، ونُقلت في البوسطة، كما وتعرضت لتجربة " العصافير" في محاولات الاحتلال لستدراجها. ليتم نقلها أخيرا إلى سجن هشارون حيث التقت الأسيرات ليوم واحد فقط، لتتحرر بعدها وتعود إلى مسقط رأسها إسطنبول. 

في معرض حديث إيبرو عن تجربة الاعتقال، أخبرت "بنفسج" عن شخصية أم جمال، التي بدا للوهلة الأولى أنها أسيرة فلسطينية، لكنها لم تكن إلا "عصفورة". كان من المفيد لإيبرو أن تُلّم بتفاصيل الاعتقال، وظروف الأسر والتحقيق، نظرًا لمطالعتها الواسعة حول القضية الفلسطينية، والذي كان كفيلًا بأن تعرف أن السيدة التي رافقتها في الزنزانة لمدة، لم تكن إلا "عصفورة" و وسيلةً من وسائل الاحتلال وألاعيبه لمحاولات استدراجها التي باءت بالفشل.

بتنهيدة طويلة عميقة، وتغيّر واضح في تعابير وجهها، تحدثت إيبرو ل"بنفسج" عن البوسطة وتنقلها بين المحاكم، حيث عرضت على محاكم بعيدة نسبيًا عن مركز التحقيق الذي اعتقلت فيه أغلب المدة، ما كان يعني ساعاتٍ طويلة من الانتظار وتعذيبٍ من نوعٍ آخر، تقول: " كانت البوسطة أكثر ما أتعبني في هذه التجربة، كانت قاسية جدًا ومؤلمة، أتمنى أن لا تتكرر".

استطاعَ عددٌ من الصحفيين التواجد في المحكمة ما قبل الأخيرة لإيبرو، حيث التقطوا لها صورًا وهي مقيدة الأيدي والأرجل، ما أثار موجة غضبٍ في تركيا كلها، غدت إيبرو على إثرها -خلال ساعاتٍ قليلة - "ترندًا" عالميًا تفاعل من خلاله الآلاف مع قضيتها. حيث صرّح وزير الخارجية التركي حينها، بأن حكومته سترد بالمثل على تعامل الاحتلال مع مواطنيها وتضييقه على زياراتهم إلى مدينة القدس.

لم تكن قضية إيبرو، قضيتها فقط، بل اتخذت أبعادًا سياسية، حاول الاحتلال من خلالها، إرهاب الأتراك الذين يتواجدون في مدينة القدس باستمرار، وخاصةً بأعدادِ كبيرة في شهر رمضان.

رغبةٌ جامحة خالجت إيبرو بمقابلة الأسيرات الفلسطينيات لكسر العزلة التي فرضها الاحتلال عليها. تقول:"كنت أتمنى أان أخرج من الزنزانة وأذهب إلى السجن، حتى أستطيعَ أن ألتقي بأحد، وأن أتحدث مع أحد". تحققت هذه الأمنية ليوم واحد قبل أن يفرج الاحتلال عن إيبرو ويضعها تحت الإقامة الجبرية. وتتابع: "لقد نقلوني إلى سجن هشارون، التقيتُ الأسيرات هناك، لكن لم يدم ذلك إلا يومًا واحدًا فقط".

العودةُ إلى الوطن

استقبال .jpg
صورة من استقبال أوزكان بعد عودتها إلى تركيا 

بعقد ترتديه خُطّ عليه اسم القدس، أفصحت إيبرو ل"بنفسج" عن المشاعر التي ساورتها حين عودتها إلى مسقط رأسها إسطنبول، حيث ظلت ممسكة بالعقد، كأن قلبها انفطر في مكانين ووطنين، وقالت: "لم أصّدق كيف حدث الأمر، اتصلوا بي وقالوا بأنني سأعود الليلة إلى إسطنبول، وفعلًا، خلال أقل من 6 ساعات كنتُ في إسطنبول، كان هناك الكثير من الناس في استقبالي، لم أتخيل أن أجدهم كلهم في المطار ولا في البيت بهذه الأعداد، بالإضافة إلى اتصال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومباركته تحرري"، قالت ذلك بتعابير غالبها فرح كبير، بأن كل الذي حدث معها كان مثل الحلم، إلا أنهُ تركَ فيها شيئًا لا يُنسى ولن ينسى.

شهرٌ من الاعتقال في سجون الاحتلال، شكّل لإيبرو نقطة تحولٍ جديدة في علاقتها مع فلسطين بشكل عام، والقدسِ بشكل خاص. فلقد ضاعف التعلقُ والانتماء، بعد أن أصبحت شاهدةً على معاملة الاحتلال للفلسطينيين، ونالت الجنسية فلسطينية بجدارة، بعد أن عاملها الاحتلالُ معاملة الفلسطينيين، الأمر الوحيد الذي كانت سعيدةً به، وتشعر بالفخر حياله.