بنفسج

أسرة تسرق اللحظات بين الإقامة الجبرية والاعتقال

الثلاثاء 22 اغسطس

امتلأ فضاء سجن الدامون بالبالونات التي كُتبت عليها رسائل بماء الشوق والحب "ماما اشتقنالك" .. "الحرية لك يا ماما" .. "كل عام وأنت حرة يا ماما".. "عيد سعيد منحبك يا ماما". طيّرها زوج مخلص وأطفال حرمهم الاحتلال من قبلة وحضن كبيرين من والدتهم التي اتسع قلبها هي لكل أبناء فلسطين، فهي التي لُقبت "بأم المساكين والمحتاجين"، وكان قلبها الكبير تهمتها لتقبع في سجون الاحتلال.

آية الخطيب: "أم المحتاجين"

 
يقول علي عقل، زوج آية الخطيب: "يظن كثيرون أن تحول آية للحبس المنزلي كان بمنزلة عودة الحياة لمجاريها، ولكن مع رقابة الاحتلال لتحركات آية، كان أصعب من ذلك بكثير، فالحبس المنزلي تصادف حدوثه مع أزمة كورونا، وحُرم الأطفال من المكوث مع والدتهم لمدة خمس أشهرٍ، ولم يكن من السهل انتزاع أم من بين أولادها الذين يبلغ أكبرهم 8 سنوات ولديه مشاكل في النطق والأصغر 5 سنوات، وهم ما أحوج إلى أمهم بعد عام ونصف العام من اعتقاها  وحرمانهم من زيارتها بحجة المنع الأمني، وكان له الأثر الكبير على نفوسهم".

قبل ثلاث سنوات في صبيحة عيد الفطر والذي عزم فيه السيد علي عمر عقل برفقة طفليه محمد وعبد الرحمن، للمعايدة على زوجته الأسيرة آية الخطيب، وكانت في حينها معتقلة في سجن الدامون. في 15 آب/أغسطس لعام 2023، وبعد سنوات من المماطلة، حكمت الأسيرة آية الخطيب (33 عامًا) من قرية عرعرة في الداخل المحتل بالسجن 4 أعوام، ويذكر أن الخطيب اعتُقلت في عام 2020 في السابع عشر من شهر شباط/فبراير، قضت حينها في سجن الدامون عامًا ونصف العام، بعد تحقيق قاس جدًا استمر لأسابيع، بسبب حملة تبرعات قادتها آية لصالح أطفال غزة ومرضاها.

واليوم ستخضع الخطيب للسجن الفعلي لمدة عامين إضافيين و8 شهور، حيث إن المحكمة لم تأخذ بالحسبان الحبس المنزلي الذي قضته متنقلة من قرية بسمة طبعون ثم إلى بلدة زلفة في المثلث، ثم سمحت لها المحكمة الصهيونية بالانتقال إلى بلدتها عرعرة والخروج لمدة ساعتين يوميًا.


اقرأ أيضًا: إخلاص حماد: وفاؤنا للأحرار عهد حياة ومسير


قد نذكر الأيام والتواريخ ولكنها لا تمر مرور الكرام على آية ومن خلفها، فخلال هذه الأعوام، عاشت آية وأطفالها وزوجها تفاصيل كثيرة وصعبة، حاول الاحتلال أن يجعلها خالية من رحمة فوق مظلمته وبهتان ما افترى على الأسيرة آية، فيقول علي عقل، زوجها: "يظن كثيرون أن تحول آية للحبس المنزلي كان بمنزلة عودة الحياة لمجاريها، ولكن مع رقابة الاحتلال لتحركات آية، كان أصعب من ذلك بكثير، فالحبس المنزلي تصادف حدوثه مع أزمة كورونا، وحُرم الأطفال من المكوث مع والدتهم لمدة خمس أشهرٍ، ولم يكن من السهل انتزاع أم من بين أولادها الذين يبلغ أكبرهم 8 سنوات ولديه مشاكل في النطق والأصغر 5 سنوات، وهم ما أحوج إلى أمهم بعد عام ونصف العام من اعتقالها وحرمانهم من زيارتها بحجة المنع الأمني، وكان له الأثر الكبير على نفوسهم".

يضيف زوجها: "كان من شروط خروج آية وقتها إلى الحبس المنزلي، وجود كفيل توافق عليه المحكمة، يرافقها طوال النهار والليل، تم رفضي أنا كل أفراد عائلتها من الدرجة الأولى، فكان معظم الكفيلات هن أخوات متطوعات من خارج العائلة، بارك الله فيهن".

عذاب الحبس المنزلي

2-27.jpg

وتعقيبا على الحال الذي آلت له مهمة الكفالة يقول السيد عقل: "خرب هذا نظام الاستقرار الذي تعيشه الأسرة في العادة، فبعد أن أصبح من المتاح لنا زيارتها في هذه الظروف، كان الأولاد يشعرون بانعدام الخصوصية، وأنه يتوجب عليهم الهدوء ومراعاة وجود ضيوف طوال الوقت، وأنا أيضًا ذقت مرارة البعد؛ فبعد السماح لي بالزيارة كنت أذهب فقط عند وجود أعمامها الكفلاء وليس النساء".

تنقلت آية خلال حبسها المنزلي إلى ثلاث مناطق بسبب تعسف الاحتلال، ولذلك كان الحبس المنزلي في بدايته أصعب من المراحل التي تلته، يقول السيد عقل: "عملت آية على دمج الأطفال، قدر المستطاع، بمسيرتهم التعليمية، وبذلت جهدًا هائلًا للتخفيف النفسي عنهم، وتعويض الجزء اليسير من أوجاعهم الداخلية وتأخرهم التعليمي بسبب ظروفهم النفسية وفترة كورونا، كنت أصطحب أطفالنا إلى أمهم يوم الخميس وأعود لأخذهم يوم السبت مساء أنا أو أحد أفراد عائلتها، ويقضون العطلة الرسمية الصيفية عندها وأنا أتجرع وجع البعد عنهم، وللعلم، فقد منعت من الذهاب لآية 6 أشهر لبسمة طبعون حتى تقديم شهادتي في المحكمة".

ويضيف علي: "بعد الانتقال إلى زلفة أصبح الأمر أكثر سهولة، إذ فكنا نتواجد عندها لساعات أكثر يوميًا، أما عند الانتقال إلى عرعرة، فسمحوا لي بأن أكون كفيلًا لها، وتمكنا أخيرًا من التواجد في البيت كعائلة منذ أول يوم في رمضان الأخير".

الأب والأم.. الزوج والسند

يقول علي عقل: "الزواج هو مشاركة فعلية، وتقسييم لأدوار مختلفة من عمل وواجبات البيت والمدرسة. قبل الاعتقال كانت هذه حياتنا، نتقاسم الأدوار من بيت وعلاج ابني الأكبر وتعليم وعمل، أما الآن كل هذه الأدوار من بيت لعمل صعب، لعلاجات خارجية ومحاكم وزيارات للسجون وتجهيزات أخرى، وبهذا كنت وما زلت أبًا وأمًا وزوجًا وصديقًا".

في حوارات عديدة لبنفسج تحدثنا فيه إلى زوجات الأسرى، وكانت تخبرنا الأمهات عن دورهن أمًا وأبًا معًا، وكم من الصعب أن تقسم قلبها شطرين، أحدهما للعاطفة والآخر للحزم، متجاوزة فطرتها في الحنان الدائم والمطلق؛ لتمارس في بعض المواقف دور الأب الحازم، ولكن كيف الحال مع السيد علي عقل الذي كان الأب والأم هذه المرة في ظل غياب زوجته؟

يقول: "الزواج هو مشاركة فعلية، وتقسييم لأدوار مختلفة من عمل وواجبات البيت والمدرسة. قبل الاعتقال كانت هذه حياتنا، نتقاسم الأدوار من بيت وعلاج ابني الأكبر وتعليم وعمل، أما الآن كل هذه الأدوار من بيت لعمل صعب، لعلاجات خارجية ومحاكم وزيارات للسجون وتجهيزات أخرى، وبهذا كنت وما زلت أبًا وأمًا وزوجًا وصديقًا".

"منذ أول أيام الاعتقال لم يغادر أطفالي بيتنا بتاتًا، سوى أن الصغير في البداية وبعد اعتقال والدته، رفض العودة إلى البيت، واستطعت إقناعه بعد أسبوعين، ومن يومها أنا القائم بكل أمور أطفالي من مأكل ومشرب ونظافة وعلاجات، إلا التعليم كنت أستعين بمساعدات خارجية".

هكذا كانت حياة الزوجين علي وآية، وهكذا أضحت بعد اعتقال آية، كما وصف عقل، فيضيف: "منذ أول أيام الاعتقال لم يغادر أطفالي بيتنا بتاتًا، سوى أن الصغير في البداية وبعد اعتقال والدته، رفض العودة إلى البيت، واستطعت إقناعه بعد أسبوعين، ومن يومها أنا القائم بكل أمور أطفالي من مأكل ومشرب ونظافة وعلاجات، إلا التعليم كنت أستعين بمساعدات خارجية".

وتحدث أبو محمد عن الجنود المجهولين الذين كانوا عونًا له في هذه المحنة، فيقول: "بالطبع كان هناك مساعدة من أهلي وأهل آية في بعض الأمور، مثل استقبال الأطفال حتى عودتي من العمل، وتناول وجبات الطعام عند الحاجة، وأمي وأختي الكبرى اللتان وقفتا إلى جانبي في كل الظروف؛ في البيت والأطفال.


اقرأ أيضًا: أم خالد خروشة.. "امرأة من السماء" عاندت الحزن فغلبته


بالنسبة للزوج علي لم تكن المهمات الروتينية بتلك الصعوبة مقابل التخفيف عن الأطفال وتعويضهم عن حنان أمهم المسجونة، والحفاظ على استقرارهم النفسي، فيقول السيد عقل: "التخفيف عن الأطفال ليس بالمهمة السهلة، وتحتاج إلى وقت طويل وحذر واستشارة، والأهم توكل على الله، فكان جل هدفي أن أشعرهم بالفخر بأمهم، والأهم بأنفسهم. كنت أبًا وأمًا وقت الحاجة، وإذا احتاج الأمر، أكون طفلًا ألعب معهم وأركض لأسعدهم. لذلك حولت جزءًا كبيرًا من البيت إلى ملعب كرة، وكنا نقوم بصنع الكعك والبيتزا والحلويات كل خميس. كنت صريحًا مع أطفالي في قول الحقيقة مع تبسيط للأمور وإخفاء بعضها، ممن لن يستطيعوا فهمها بذلك الوقت".

الزوج المخلص

1-25.jpg

لم ينسَ السيد علي عمر عقل، في خضم كل المهمات الموكلة لديه كأب، أن هناك زوجة قابعة خلف القضبان أشد ما تحتاج له أن ترى بسمة أبنائها من خلف القضبان، ومن خلفها زوج مخلص ومحب وداعم، ولهذا حرص السيد أبو محمد أن يفعل ما بوسعه ليسندها ويخفف عنها محنتها، فيقول: "يوم أن قررت تطير البالونات في صبيحة العيد، سرحت بخيالي إلى الحد أن هذه البالونات ستطير وتنزل إلى يد آية، أعلم أن الأمر كان من ضرب الخيال، ولكنني وددت أن يضحك مبسمها في ظلمة ذلك السجن، فحرصت أن أتحدث معها على الإذاعة في وقت تطير البالونات، وتطور الأمر يومها إلى التصوير واللافتات؛ ليعرض الحدث مجددًا على قناة فلسطين في عيد الأضحى وتشاهده آية مرة أخرى، وبالفعل وصلت الرسالة لآية وضحك قلبها المشتاق الحزين ساعة رؤيتها للبلالين".


اقرأ أيضًا: "ملك سلمان" .. فراشةُ الأسيرات أثر يُرى ولا يزول


ويضيف: "كنت أحرص أن ترى آية بعض المشاهد من حياتنا لا أن تسمع عنها فقط، لذلك عند الذهاب إلى المحكمة كنت أطبع صورًا على قمصان الأطفال، لترى آية بعضًا من صورهم التي أرغب بإيصالها لها، وفي يوم 20 آب/أغسطس احتفالنا بذكرى ميلاد آية قبل شهرين من وقته الأصلي، لتكون معنا ونكون معها قدر الإمكان بكعكه وهدية ومفاجأة وبمبادرة الأولاد، ودعمي لهم فقط، لنستغل الفرح بكل درجاته، فمن رحم الأزمة نصنع الفرحة والنصر لنبلغ ما نبتغي".

وأخيرًا وجه عقل رسالة يقول فيها: "زوجتي الحبيبة؛ عودي، فنحن بانتظارك أنا ومحمد وعبد الرحمن.. سنة أم سنوات، نحن بانتظارك لنكمل حياتنا بفهم جديد لقيمة العائلة وتكاتفها ومحبة". ستعود آية إلى سجون الاحتلال في تاريخ 2 أيلول/سبتمبر ،2023 وهو آخر يوم لها لتسليم نفسها.