بنفسج

من شجن الذاكرة: طقوس التراث في حكايا أم مبارك

السبت 13 يونيو

تحب التراث حباً جماً وتنقله للأجيال من أعماق قلبها؛ تتحدث عنه بطريقة مدهشة وكأنها عاشت تلك الحقب الجميلة بملء روحها؛ فهي تجد حنيناً ممن ضجروا الصخب وسئموا من اللهاث خلف حياة مادية فاترة العلاقات؛ إنها الباحثة في التراث الفلسطيني فتحية خطيب المكناة بــ "أم مبارك" فقد كرست حياتها من أجل الإلمام بأدق تفاصيله.

| أمهات الزمن الجميل

الباحثة في التراث الفلسطيني فتحية خطيب المكناة بــ "أم مبارك"  كرست حياتها من أجل الإلمام بأدق تفاصيله. تحب التراث حباً جماً وتنقله للأجيال من أعماق قلبها؛ وتتحدث عنه بطريقة مدهشة.
 
ارتدت أم مبارك ثوبها المطرز الفاخر وراحت تحكي بمحبة لــ "بنفسج": "عاشت المرأة حالة حركة دؤوبة في ظل ما تزاوله من عمل مضنٍ وشاق؛ لذا لم تنشغل بمتاعب الحمل والولادة؛ فكل ما في الأمر أنه إذا ما جاءها المخاض تنجب، ونقطة آخر السطر".

سنبدأ بــ "الميلاد" ففي ثناياه ما يثير الحماس؛ لم تكن المرأة الفلسطينية تنجب فقط في منزلها بل في الحقل و"الحصيدة"؛ هي طوال الوقت ملتصقة بالرجل تعمل معه جنباً إلى جنب في الأرض؛ كون الزراعة هي المورد الاقتصادي الأساسي. تزرع وتحرث وتحصد وتجمع المنتوج، وحتى في صلاة الاستسقاء تخرج مع الرجال؛ لقد كانت شريكة حقيقية.

ارتدت أم مبارك ثوبها المطرز الفاخر وراحت تحكي بمحبة لــ "بنفسج": "عاشت المرأة حالة حركة دؤوبة في ظل ما تزاوله من عمل مضنٍ وشاق؛ لذا لم تنشغل بمتاعب الحمل والولادة؛ فكل ما في الأمر أنه إذا ما جاءها المخاض تنجب، ونقطة آخر السطر".

p4.png

تروي مشهداً من كتب التراث أنه ذات مرة كانت هناك امرأة تُحطّب للمواقد؛ وحين أتاها "الطلق" أنجبت ثم قطعت الحبل السري بحجر؛ ثم لفّت الرضيع وعلّقته في كم ثوبها ووضعت حزمة الحطب على رأسها وعادت إلى البيت تطهو لصغارها؛ وكأن ذلك الرضيع هدية من السماء عادت به آخر النهار.

السؤال الذي يتبادر إلينا: "ترى ما الفرق بين نساء اليوم ونساء الأمس؛ لا سيما أن المرأة في عصرنا هذا تعاني العديد من الصعوبات في الحمل والولادة؛ تظهر أسنان أم مبارك بيضاء ناصعة وهي تجيب: "شظف العيش وقسوة الظروف التي كانت تقاسيها المرأة في ذلك الزمان جعلتها تعتاد؛ تلك المشقات الثقيلة أهلّت جسدها ليتعامل مع آلام الحمل والولادة دون أدنى مشكلة؛ أما اليوم تتوفر كل مقومات الرفاهية والراحة لذا لا طاقة للمرأة على الألم، وما عاد بوسعها أن تنجب على يد قابلة أو دون مسكنات".

وتتوصل أم مبارك إلى معادلة توجزها على النحو التالي: "كلما تقدم العصر تزداد الراحة الجسدية وفي المقابل تتضاعف الصعوبات النفسية؛ بينما في الماضي أعمال شاقة وراحة نفسية؛ من الصعب أن نتخيل ما عايشته الفلسطينية قبل أكثر من مائة عام؛  لقد هيأت بُنْيَتَها لأن تتحمل كل شيء؛ وليس غريبا أن الطب الحديث ينصح المرأة عند اقتراب الولادة بالمشي حتى تتيسر عملية الوضع؛ فيما كانت النساء قديما لا يتوقفن عن الحركة".

ح6.png

وبالعودة إلى "الداية" فلا بد من توفر عدد من المواصفات؛ تقول: "كان عليها أن تتمتع بالخبرة حتى تستطيع أن تطببّ النساء؛ وتعتني بالمولود؛ فمثلاً تدهنه بالزيت للتعقيم وكذلك بالخميرة، ويتعين عليها إرشاد الأم كأن تملّح الطفل؛ وأن تضع في عينه ملحا وكحلا حتى يرى بشكل أوضح. وعلاوةً على ذلك، يتوجب أن تكون القابلة كبيرة بالسن- أي قطعت الحيض- من أجل الطهارة؛ إذ يقع على عاتقها مسؤولية كبيرة وهي حياة الطفل والأم؛ أي أنه شرط واضح: ينبغي أن تكون مجربة".

كانت تنجب المرأة على المصطبة أو في الإصطبلات أي على القش؛ وحينها يتم استخدام ماء ساخن للتعقيم؛ ثم يؤتى بــ "قفّة" فيها تراب أحمر مغربل؛ وتوضع حذوة حصان ساخنة أسفل التراب ويوضع الطفل فوقها لأسبوع كامل حتى يبقى دافئاً.

| طقوس قديمة

تشير الباحثة فتحية خطيب إلى أن المرأة قديما كان يطلق عليها "ولية" أي أنها تعيش تحت ولاية الرجل كونه المعيل الوحيد للأسرة؛ هو المسيطر وهي تعيش في ظله؛ حتى أنها لم تكن تنادى باسمها؛ فيقال زوجة فلان أو بنت فلان أو أم فلان.
 
وتسوق مثلاً شعبياً مؤلما: "اللي بتموت وليته من حسن نيته"؛ ومثل آخر: "ترى بنت العم صبارةٍ ع الجَفا.. أما الغريبة فبدها تدليل".

ماذا عن احتياجات المولود في ذلك الزمان يا أم مبارك؟"؛ تضيف: "لم يكن من حفاظات بطبيعة الحال؛ كان يُلف جسم الصغير بالأقمشة أو ما يسمى بــ "القماط" ويُعصب رأسه "النافوخ" 40 يوماً؛ تقويماً لعظام رأسه، ذلك أن الداية حين تشد الجنين قد تصيب عظمة الرأس بمشكلة؛ وهذه العصبة تحميه من الضرر".

وبشأن غذائه؛ تفيض الباحثة في التراث بالمزيد: "بمجرد ولادته يُسقى بالسكر المغلي إلى أن يدر ثدي أمه بالحليب؛ وإذا أنجبت صبياً يطهى للأم دجاجة مع حساء؛ وإذا كانت أنثى يقدم لها ديك؛ ومن أجل إدرار الحليب يُغلي لها "قزحة" مع زيت الزيتون والسمسم؛ وفي حال كان المولود ذكراً تكون القابلة سعيدة حظ لتتقاضى أجرتها بقطعة معدنية أو من المنتج الزراعي؛ وإذا كانت أنثى لا تتقاضى شيئاً.

وعن الطقوس المتبعة عند الميلاد؛ حسب ضيفة "بنفسج" فإنه يتم دعوة كل كبيرات السن في الحي من أجل حضور الولادة، وتوزع القابلة بخبرتها عليهن المهام؛ حيث كن يتناوبن على رعاية الوالدة إن كانت مريضة".

وتورد تفاصيل صغيرة ذات جانب طريف؛ فإن القابلة عادة ما تنظر إلى رأس الرضيع وفقاً لدوائر الشعر؛ فإذا كانت هناك دائرة واحدة تتحلق في رأسه فمعناها أن المولود القادم أنثى؛ وإذا ما توحمت الحامل على شيء فلا بد من إحضاره حتى لا تظهر علامته على جسم المولود. أما في حال كان طعاماً من الصعب تلبيته؛ فإنها تحتسي مغلي السمسم والقزحة؛ فحسب المعتقدات الشعبية ذلك يمنع "الوحمة".

ولا تفوتنا عادة "عطية الصينية"؛ أم مبارك تشرحها لمن لا يعرفها بالقول: "بعد ولادة الأم مباشرة كانت توضع الأنثى على صينية وتهزها النساء؛ ومن ثم يقررون مصيرها: "أعطيناكِ لابن عمك فلان".

| "بدلة الشوفة"

وتستعرض أم مبارك "البسّامة" شريط الطقوس التي ستسرق من ثغركِ ضحكة: "بعد الخطبة بيومين توجد هناك عادة "محرمة العريس"؛ أي أن أهل العريس يدعون كل القريبات من خالات وعمات وجارات؛ في لفتة كريمة لمساعدة الشاب المقبل على الزواج ليباركن للعروس و يهدينها مناشف ووسائد وفراش  ونحوه.
 
وقبل العرس بأسبوع تحين عادة "بدلة الشوفة" وفيها يقدم أهل العريس للعروس قطعة الذهب أو باقي مستلزمات العرس.

وبالانتقال إلى موضوع يحظى بجاذبية مختلفة في التراث الفلسطيني؛ وهو الزواج. تؤكد فتحية خطيب أن ثمة سببا مهما كان يحتم على الفتاة أن تتزوج باكراً؛ موضحة: "بما أن الفتيات كن يعملن في الأرض فإن الأب يعمل جاهداً على توفير الأيدي العاملة؛ لذا إذا ما خطبت ابنته فإنه يشترط أن تمكث لفترة قبل أن تتزوج؛ والسبب مثير للاهتمام: "ستخرج ابنتي ولا بد أن تأتي "كنة" بدلاً منها، حتى تسد فراغها في الأرض".

وفي ليلة العرس تقام حفلة "الحنة"؛ والتي تعد أحد أهم رموز الأعراس الشعبية؛ فشجرة الحناء- والكلام لأم مبارك-  تشبه شجرة الزيتون لكن أوراقها أعرض؛ وكان الأولون يجففون ورقها ثم يدقونها وبعدها تُنقع بماء الشاي؛ أو ماء الرمان.

أما عن الزواج قديمًا، تقول، "تأتي الماشطة إلى بيت العروس تحممّها وتجهزها وتحنّي لها قدميها ويديها؛ وفي اليوم التالي حين تخرج من بيت أبيها تزُف على وقع أغاني من هذا القبيل: "قومي اركبي والخيل تنقّط عرق.. فِيدك ألفين ليرة ورق".

 "قومي اركبي والخيلة من جِنين.. دفعنا فِيدك ألفين ليرة استرلين". الفِيد هو المهر-  وأثناء ذلك تركب الخيل أو الجمل؛ ذلك أن الحيوان احتل مكانة مهمة في التراث".

وبمتعة لا تضاهى؛ تواصل حديثها: "تأتي الماشطة إلى بيت العروس تحممّها وتجهزها وتحنّي لها قدميها ويديها؛ وفي اليوم التالي حين تخرج من بيت أبيها تزُف على وقع أغاني من هذا القبيل: "قومي اركبي والخيل تنقّط عرق.. فِيدك ألفين ليرة ورق؛ قومي اركبي والخيلة من جِنين.. دفعنا فِيدك ألفين ليرة استرلين"؛- الفِيد هو المهر-  وأثناء ذلك تركب الخيل أو الجمل؛ ذلك أن الحيوان احتل مكانة مهمة في التراث؛ حسب تأكيدها.

المفاجآة أن العروس لم تكن ترتدي في ليلة الزفاف الثوب الأبيض. ضحكة ملؤها الوفاء لذلك الزمان تخط صاحبتها المشهد: " كانت الفتاة تحضرّ "جهازها" باكراً ويستغرق الأمر منها سنوات؛ فهي لا تذهب للتعليم وتلازم أمها حتى تتعلم منها التدبير المنزلي؛ وهكذا تقضي وقتها في حياكة وتطريز "ثوب العمر" المزركش بألوان زاهية؛ ليس ذلك وحسب؛ بل أيضاً تخيط بيدها الوسائد واللحف والشراشف؛ في انتظار اليوم الكبير".

وتبدي أم مبارك فرحتها بفتيات اليوم ممن يتباهين بارتداء الثوب المطرز في أعراسهن من باب الاعتزاز بقيمة تراثية رائعة للأزياء الشعبية؛ مما يؤكد حنين الجيل الشاب إلى الماضي؛ تتنهد بارتياح عند هذا المقطع.

غ35.png

ثم تتوقف عاشقة التراث قليلاً عند الأزياء الشعبية: "التراث خصّ مدينة بيت لحم على وجه الخصوص بالأقمشة المطرزة المتناسقة ذات الجودة العالية؛ فمن بين ما قيل في الموروث: "يا أم المنديل الأًويا والزنار.. ولعتينا بهواكِ والقلب احتار".  الأويا هو التطريز الممتد على جوانب غطاء الرأس. "ويا أم التنورة الداير نَباتي..  قوليلي بأي أودة بتباتي.. لهجم أبوكِ الساعة التلاتة". و"نباتي" هو قماش الدانتيل الأنثوي. وحين ترحب الحماة بالكنّة الجديدة تقول: مرحبا بيكي جتيني.. بالبيت ونّستيني.. يا أم الفستان الزهري والزنار النيلي". وتلفت النظر إلى أنه عبر الزي كان يمكن التفريق بين الصبية المتزوجة والفتاة؛ ذلك أن الأولى تضع على رأسها عُصبة؛ فيما الثانية تكتفي بوضع غطاء على شعرها".

| مناكفات لطيفة

في وصف الأجواء الساحرة البسيطة في يوم العرس الفلسطيني تقول أم مبارك: "كان سكان الحي يساعدون بعضهم البعض بكل جوارحهم في كل عرس يقام؛ حين تهبّ النساء الكبيرات لجمع "الطناجر" والطاسات والحطب واللبن".
 
 كما "كانت تقام الأفراح في البيدر- ساحة كبيرة وسط البلدة-  على ضوء القمر مكتفين بإضاءة المشاعل؛ ومن يأتي بــ "ذبيحة" تهاهي أم العريس بقولها: هــا واجتنا ذبيحة تمشي.. ومعها خروف وكبشِة؛ وذبحنا ذبايحنا وتعالوا شوفوا.. وفلان جايب خروفه".

ثم تسترسل: "كانت تقام الأفراح في البيدر- ساحة كبيرة وسط البلدة-  على ضوء القمر مكتفين بإضاءة المشاعل؛ ومن يأتي بــ "ذبيحة" تهاهي أم العريس بقولها: هــا واجتنا ذبيحة تمشي.. ومعها خروف وكبشِة؛ وذبحنا ذبايحنا وتعالوا شوفوا.. وفلان جايب خروفه".

أما المظهر الثالث الذي نرصده؛ "النقوط"؛ ومن ينكر أنه صار هماً اقتصادياً ونفسياً في ظل أعباء الحياة الثقيلة والمتلاحقة ما بين أفراح ومواسم؛ تفتح أم مبارك صفحة الماضي: "في الزمن الجميل كان "النقوط" عبارة عن هدية عينية أو نقدية بسيطة إن توفرت؛ قد تكون هدية العرسان عباءة جوخ أو ذبيحة أو فَرس أو من المنتوج كصاع من القمح أو البرغل؛ والهدف من الأمر هو المساعدة وإظهار الود؛ فقد كانت الأوساط الشعبية تتسم بالنقاء والقناعة؛ على عكس هذه الأيام فإن النقوط إذا ما أثقل كاهل المرء صار ينطبق عليه المثل "الهدية بَلية".

أما عن "النقوط"، تفتح أم مبارك صفحة الماضي وتقول: "في الزمن الجميل كان "النقوط" عبارة عن هدية عينية أو نقدية بسيطة إن توفرت؛ قد تكون هدية العرسان عباءة جوخ أو ذبيحة أو فَرس أو من المنتوج كصاع من القمح أو البرغل. 
 
والهدف من الأمر هو المساعدة وإظهار الود؛ فقد كانت الأوساط الشعبية تتسم بالنقاء والقناعة، فقد كانت الأوساط الشعبية تتسم بالنقاء والقناعة؛ على عكس هذه الأيام فإن النقوط إذا ما أثقل كاهل المرء صار ينطبق عليه المثل "الهدية بَلية".

ماذا عساه يهمس لها فارس الأحلام في تلك اللحظات؛ تقول فتحية: "في أول قطعة يقول لها: "هذا بحب النبي والرسول"؛ وفي الثانية: "هذا بحب أبيكِ وأمك"؛ وفي الثالثة: "هذا بحب عمكِ وخالك".

غ37.png

 مضيفة: "غالباً ما تحدث المناكفات حين لا يكون العريس قادراً على إعطاء النقود لهما بسبب شح الموارد آنذاك؛ وحينها يكون رد الخال والعم: "لن تخرج العروس بدون الخلعة والدرنك". وفي لحظة نقوط العروس؛ تغني لها النسوة: "قومي تجلّي ووراكِ سند.. قومي تجلّي ووراكِ حمولة بتعمرّ بلد؛ وراك أبوكِ وأولاده ما أحلا دياته بتنقطف دهب"؛ لتحظى بالذهب.

لا تلتقط أنفاسها هذه السيدة الدافئة في حكاياتها؛ إلى أن تختم بــ "نقوط العريس": "يفرش أصدقاؤه مَحرمة أو حطة ليضع كلُ منهم ما تجود به نفسه. وفي اليوم التالي يسجل والد العريس أسماء الذين نقّطوا حتى يقوم برد الواجب لاحقاً؛ عملاً بالمثل القائل: "كل شي قَرضَة ودِين حتى دموع العينين".