بنفسج

عائلة أبو هليل: بشرى وعامر يفصلهما اعتقال إداري

الإثنين 25 سبتمبر

كان ابتهالُ الدعاء هذه المرة مختلفًا، فهمسُ حروف التضرُّع في كلِّ سجدةٍ كانت كفيلة بشعور الدفء الذي يحتضنُ ختام الأشياء. فهذا عامر وهذا دعاؤه، الشاب الذي عرفته كل مساجد قرية دورا في الخليل، ملتزم الصلاة، مبتهل الدعاء، رافع اليدين دائمًا نحو السماء، يسأل الله ذريةً صالحة تزيِّن طريق الحب مع رفيقة طريقه بشرى. ستُّ سنواتٍ مضتْ وقلب العامر يطوف لهفةً حول هذا الدعاء "ربِّ لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين"، يشدُّ يد زوجته ويهمسُ في أذنها: "سأكون أبا توفيق عن قريب، هكذا يحدثني قلبي يا أمَّ توفيق". تضحك بشرى وهي ترى الأمل الذي لم يغبْ عن عيون زوجها، وتردد: "وما ذلك على الله بعزيز".

بدايةُ الانتظار

 

يومان فقط، هكذا أخبرهم الطبيب في المرةِ الأخيرة. كان على بشرى وعامر أن ينتظرا يومين لإجراء فحص الحمل والتَّأكد من النتيجة. ليستْ باللحظة السهلة، فاليومان في حساب المُنتظرين أكبر من أيام الجالسين العاديين. عاد الزوجان إلى بيتهما يحاولان إشغال نفسيهما بعيدًا عن قلق التفكير وطول الانتظار.

وما هي إلا ساعة واحدة حتى ملأ صوتُ الصراخ الشارع، وإذ بمجموعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي يقتحمون بيت عامر. لم يكن هناك مجال لفهم ما يحدث، أو طرح أي سؤال؛ ففي غمضة عين وُضعتْ القيود في يد عامر، وانقلب البيت رأسًا على عقب.

 

يومان فقط، هكذا أخبرهم الطبيب في المرةِ الأخيرة. كان على بشرى وعامر أن ينتظرا يومين لإجراء فحص الحمل والتَّأكد من النتيجة. ليستْ باللحظة السهلة، فاليومان في حساب المُنتظرين أكبر من أيام الجالسين العاديين. عاد الزوجان إلى بيتهما يحاولان إشغال نفسيهما بعيدًا عن قلق التفكير وطول الانتظار. وما هي إلا ساعة واحدة حتى ملأ صوتُ الصراخ الشارع، وإذ بمجموعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي يقتحمون بيت عامر. لم يكن هناك مجال لفهم ما يحدث، أو طرح أي سؤال؛ ففي غمضة عين وُضعتْ القيود في يد عامر، وانقلب البيت رأسًا على عقب.

اعتُقل الأسير الصحفي عامر أبو هليل (30 عامًا) في 4 كانون الأول/ديسمبر 2022 دون توجيه تهمةٍ مباشرة إليه. كانت كلُّ الأسئلة مُعلَّقة إلى أن حُكم عليه بعد أسبوع بالاعتقال الإداري لمدة أربعة شهور. ترك عامر خلفه زوجته الصحفية بشرى أبو ذريع (28 عامًا) لتتم حساب اليومين وحدها، وتبدأ الحلم الطويل دون يد الرفيق.

2-24.jpg

"أجل يا عامر، أنا حامل بطفلنا الأول". هكذا كان عنوان اللقاء الأول بين عامر وبشرى. وعلى قدر كل الخيالات التي رسمتها بشرى، وهي تفكر كيف ستخبر عامر بالنتيجة التي انتظروها طويلًا، إلَّا أنَّها لم تتوقع أن تخبره هذه الفرحة عبر الهاتف الموصول بين شباكين زجاجين في غرفة الزيارة في سجن النقب.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


"لم تكن أيام الحمل سهلة، ولا يمكن أنْ أدَّعي ذلك، فلم يغنني شيٌّ عن غياب عامر. لقد رسمنا معًا صورةً واحدة ونحن نذهب للزيارة الأولى للطبيب، وشوقنا ونحن ننتظر معرفة جنس المولود، لقد وضعنا خطةً بكل الثياب التي سنشتريها لطفلنا الأول". تقول بشرى وهي تتابع تسلسل الأحداث: "ربما كان صبري الوحيد أنها أربعة أشهر فقط، وسيخرج عامر ليتابع معي ما تبقى من تفاصيل الحمل الثقيل".

تجديد الاعتقال

1-14.jpg
الأسير عامر أو هليل وطفله

كان الجميع ينتظر عامر ويجهزون لفرحة الإفراج، إلَّا أنَّ الاحتلال كعادةِ مكره، عمد إلى تجديد الاعتقال الإداري قبل يومٍ واحد من حرية عامر، لتُضاف أربعة أشهر أخرى على قائمة انتظار بشرى.

في هذه المرة كان على بُشرى أن تتقبل فكرة غياب عامر عنها، وأنَّها ملزمةً بالبحث عن كلِّ معاني القوة وفهمها جيدًا. فهذه المعركة أصبحتْ بثلاثة أشخاص. فالصغير الكائن في أحشاء أمه، يحتاج أيضًا إلى امرأة قوية ومُحاربة، لينيرَ هذا العالم بصحةٍ وسلامة، وعوضٍ عن عدم وجود والده أثناء فترة الحمل.

3-12.jpg

"كنتُ أحاول أن أكون قوية لأجل عامر وطفلنا، فلم يكن سهلًا أيضًا على عامر عدم وجوده بجانبي، لذلك كنتُ حريصةً في كلِّ زيارة على سرد كل التفاصيل التي أعيشها، أخبرته عن صوت النبضة الأولى لجنينا، وشعور الرفسة الأولى، وشقاوته التي لا تحلو إَّلا عند ساعات نومي. كنتُ أستغل كل دقيقة في زيارتنا، ليبقى هذا الحديث أُنسًا لعامر، وكأنه يعيش معي حقًّا كل هذه المشاعر".

اكتملتْ الشهور، واقترب المخاض، وها هو وليُّ العهد "توفيق" يدقُّ باب القدوم إلى هذا العالم. يخرج ممسكًا بطرف أصبعه يد أمه، يلتقط رائحتها، يبحث عن أمانه في حضنها. "أهلًا بك يا عيون ماما، أهلًا بتوفيق الذي جاءنا توفيقًا بعد سنوات الشوق". هذا أول ما قالته بشرى، وهي تبحث عن ملامح زوجها في وجه طفلها. فهذه النظرة كانت كفيلة بمسح دموع التعب والشوق. كانتْ أمنيةُ عامر أن يتلو الأذان في أذن طفله للمرة الأولى، مع قبلةٍ صغيرة على وجنتيه، لكن شاءتْ الأقدار أن تعلو "الله أكبر" من خلال هاتف السجن فقط.


اقرأ أيضًا: حضنٌ وقبلة.. من يؤتِي تأويلَ حلم الأسيرة فدوى حمادة؟


أصدرتْ المحكمة العسكرية قرارًا بتجديد الاعتقال الإداري لعامر للمرة الثالثة على التوالي، وهذا يعني أنه لن يتمكَّن من رؤية طفله لمدة أربعة أشهر أخرى، وهذه المدة قد تطول مرةً أيضًا في الاعتقال الإداري. وهذا ما دفع بشرى إلى تقديم كل الأوراق الحقوقية اللازمة، لإعطاء عامر حقًّا في رؤية صغيره، إلَّا أنَّ هذا الطلب قوبل بالرفض دون توضيح الأسباب.

معركةٌ صعبة وزوجةٌ مُحارِبة

 

لم تتوقفْ بشرى عن محاولاتها بالرغم من أنَّها ما زالتْ تعاني من آلام وإرهاق ما بعد الولادة، إلَّا أنَّها لا تترك مجلسًا ولا محاميًا ولا مؤسسة حقوقية إلَّا وتسعى إلى عرض قضية زوجها عامر.

فالأمر لم ينتهِ عن محاكمة عامر إداريًا وحرمانه من رؤية صغيره، بل أصبحتْ هناك ضرورة مُلحة لخضوع عامر للعلاج العاجل بعد تفاقم وضعه الصحي.

 

لم تتوقفْ بشرى عن محاولاتها بالرغم من أنَّها ما زالتْ تعاني من آلام وإرهاق ما بعد الولادة، إلَّا أنَّها لا تترك مجلسًا ولا محاميًا ولا مؤسسة حقوقية إلَّا وتسعى إلى عرض قضية زوجها عامر. فالأمر لم ينتهِ عن محاكمة عامر إداريًا وحرمانه من رؤية صغيره، بل أصبحتْ هناك ضرورة مُلحة لخضوع عامر للعلاج العاجل بعد تفاقم وضعه الصحي.

ما هو الوضع الصحي الذي يستدعي العلاج العاجل؟! تقول بشرى: "تعرَّض عامر للضرب أثناء خضوعه للتحقيق الإداري في الأشهر الأولى من اعتقاله، ما أدى إلى إصابته أسفل ظهره. وقبل شهرٍ من الآن خضع لتحقيق قاسٍ تعرض خلاله للضرب المبرح، فأصيبت قدمه اليُسرى إصابةً بليغة".

4-12.jpg

تتابع بشرى قائلةً: "عامر الآن لا يستطيع الصلاة واقفًا، ولا يمكنه أداء الرياضة بأيِّ شكلٍ من الأشكال. وما يزيد من خطورة وضعه، أنَّه لم يتلقَ علاجًا ولم يُعرَض على طبيب السجن من الأساس؛ نتيجة القوانين الصارمة والتشديدات التي يعيشها الأسرى في سجن النقب في الآونة الأخيرة".

حاول محامي عامر، بالتعاون مع العائلة، تقديم كل الأوراق اللازمة للمُطالبة بالإفراج عن عامر وبدءِ العلاج الطارئ. ناهيك عن الوضع النفسي الذي يعيشه الأسير عامر منذ أشهر ماضية، خاصةً بعد اكتشاف إصابة أمه وأخيه بمرض السرطان.


اقرأ أيضًا: نورا ومحمد.. 48 مؤبدًا بميثاقِ حُبٍّ وانتظار


لم تكن هذه تجربة الاعتقال الأولى التي تعيشها بشرى، فقد تعرَّض زوجها عامر للاعتقال عام 2019، لمدة عامين. عاشتْ فيهما بشرى وهي تعرف يوم الحرية، وتعلِّق ورقة التقويم جانب سريرها وتحسب الأيام والساعات. لكن هذه المرة اختلفتْ ملامح الانتظار، فالاعتقال الإداري الذي يعيشه عامر، لم يتركْ مجالًا لمعرفة توقيت انطفاء الشوق وظفر اللقاء.

تقف بشرى اليوم تعدُّ الأيام برفقة طفلها توفيق الذي لم يتم الشهر من عمره، تنسج له الحكايات، وتخبره عن والده، وتهمسُ في أذنه عن قصة الصمود التي عاشاها معًا وهم ينتظرون قدومه، تُوقِف الزمان قليلًا وهي تلتقطُ لصغيرها الكثير من الصور، من لحظة الولادة الأولى وصولًا إلى اليوم الذي سيلتقطُ فيه توفيق رائحة أبيه عامر حرًّا طليقًا في هواء قرية دورا.