بنفسج

في سيرة شيخ الأسرى: عبدالرحمن صلاح

الخميس 03 اغسطس

روحك ما يهمها اعتقال.. مهما طال السجن وطال.. هذا دربك درب رجال.. سجنك خلوه وابتهال.. والزنزانة جمع أبطال.. منك سجانك ما ينال..

رجل سبعيني لم ينل السجان منه أبدًا، ظل شامخًا بهيبته المعتادة على الرغم من الأمراض التي غزت جسده، بمجرد النظر إلى وجهه بلحيته البيضاء والشيب الذي غمره بفعل السن، يصيبك شعور بالألفة، تشعر وكأنه أب كل الفلسطينيين، تجاعيد وجهه تثبت أنه مناضل فلسطيني حارب لأجل القضية وهب حياته لفلسطين، عشرون عامًا من الاعتقال، وما زال يطبطب على أبنائه في كل زيارة ويمنحهم الرضا، نعم يجاهد ليتعرف عليهم في قاعة الزيارة بعد فقدانه لجزء كبير من بصره، ونيل الأمراض منه وهذا ما أراده الاحتلال، لكنه شيخ الأسرى، عبد الرحمن صلاح، الرجل الخلوق القوي المقاوم، الذي أقسم أن يظل على العهد ولا يحيد. فقد الابن والأخت وعانى ويلات الأسر وبقي بطلًا يحيا بالأمل ودعوات المحبين، وبصور أحفاده التي يراها في الزيارات، فيصبح شابًا في العشرين بلهفته لحفظ ملامحهم كلهم وطباعتها في عقله.

شيخ الأسرى في عيون ابنته

عن استشهاد شقيقها محمد تقول رشا: "في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2003، اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين، فقلق أخي محمد على الصغير فادي فركض لجلبه من المدرسة، وفي الطريق حدثت مواجهات بين الاحتلال والشبان، فرجم الحجارة على الدبابة، فقنصه قناص إسرائيلي".

بغصة بالقلب وحشرجة بصوتها تروي لنا ابنته رشا، حكايات من العشرين عامًا الذي قضتها وأشقاؤها ووالدتها بعيدًا عن أحضان والدهم، تحكي عن لحظة اللقاء بعد تحرر الوالد في صفقة وفاء الأحرار، وعيني والدها التي تخبرهم "ها قد اجتمعنا من جديد"، ولكن سرعان ما حطم الاحتلال الفرحة والخطط التي قرروا تنفيذها في صباحات الأيام المنعشة. اعتُقل شيخ الأسرى لأول مرة في العام 2002، وحكم بالسجن لـ(25) عامًا وأفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار بعد عشر سنوات من الاعتقال، ثم أعاد الاحتلال اعتقاله في 2014، وأعطاه نفس الحكم الأول.

كانت الصدمات ثقيلة على رشا، صبرنا عشر سنوات حتى حان اللقاء، هل سنتفرق ثانية؟ ألم يزول الألم؟ هل لن يغني لأحفاده بصوته الجميل؟ ولن يأتينا في صباح العيد؟ كانت هذه تساؤلات رشا التي بكت كثيرًا لحظة الاعتقال الثاني لوالدها، وتمنت لو توقف الزمن عند لحظاتهم السعيدة في أحضان والدهم.


اقرأ أيضًا: هيفاء أبو صبيح: في أن تكوني أمًا وأسيرة


لم تيأس رشا؛ فجددت عهدها مع الأمل بلقاء آخر مع والدها مهما طال الزمن، فهي ابنة عبد الرحمن صلاح ولا يليق بها إلا العزة والشموخ، ستصبر أسوة بوالدها ووالدتها التي ربت 7 أبناء بمفردها. توجد لحظات في الحياة، نقف عندها مطولًا، تصيبنا الرجفة الأبدية التي لا شفاء منها مهما طال الزمن، وها هي الغصة تُصيب قلب شيخ الأسرى الذي يجلس مستمعًا للراديو وإذ بخبر يقول: "استشهاد محمد عبد الرحمن صلاح"، ففقد وعيه فورًا.

استشهاد الابن

33.jpg
أحفاد شيخ الأسرى عبد الرحمن صلاح

إن الموت الأصعب في الحياة هو موت الفجأة، بينما كان يبني عبد الرحمن صلاح أحلامه مع ابنه البكر فور تحرره يفاجئ بخبر استشهاده، كان وقع الخبر على نفسه ثقيلًا، فلا أثقل على الأب أن يفارق ابنه دون أن يُطبع قبلة الوداع الأخيرة.

عن استشهاد شقيقها محمد تقول رشا: "في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2003، اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين، فقلق أخي محمد على الصغير فادي فركض لجلبه من المدرسة، وفي الطريق حدثت مواجهات بين الاحتلال والشبان، فرجم الحجارة على الدبابة، فقنصه قناص إسرائيلي، وحاولت الدبابة بعد سقوطه السير على جثمانه ولكن الشباب سحبوه من أمامها".

لم يعد محمد مع فادي يومها صعدت الروح لبارئها، وها نحن نذكره في كل مناسبة، نذوب من فرط شوقنا له، فور تحرر أبي في صفقة وفاء الأحرار، توجه فورًا للمقابر لزيارة محمد، ففتح جرحنا الذي لن يطيب أبدًا وكأنه حدث بالأمس". تضيف رشا.


اقرأ أيضًا: إخلاص حماد: وفاؤنا للأحرار عهد حياة ومسير


ما الموقف الذي طُبع في ذاكرة رشا ولا تنساه؟ تجيب بدمعة شاردة: "كان فادي ممنوع من زيارة أبوي لسنين ولما شافه ضل واقف 45 دقيقة يحفظ ملامحه، مش مصدق أنه هاد فادي، ضحكته ولمعة عينيه ما بنساهم لحد هاللحظة كان موقف جميل وبنفس الوقت حزين، وبتزكر موقف ثاني مشابه لما تحرر أبوي ركض فادي عليه وحضنه، فصار مستغرب أنه مين بحضني هاد ابني جد".

يعاني شيخ الأسرى السبعيني من آلام في القدمين، إضافة إلى ديسك بالظهر، ومرض السكري والضغط، ويحتاج إلى عناية صحية خاصة لا تتوفر بالسجن، إذ فقد النظر بالعين اليمنى، ولديه ضعف بنسبة 90% في عينه اليسرى، ورجفة في اليدين، وعلى الرغم من تدهور حالته الصحية إلا أن لا يتلقى الرعاية المناسبة لحالته، وتتمنى رشا أن يُفرج عنه قريبًا ليستطيعوا توفير العناية الصحية له.

زيارات شيخ الأسرى

22-2.jpg
أبناء وأحفاد الأسير عبد الرحمن صلاح

تعود طفلة وهي تُجهز نفسها لزيارة والدها، حماسها يشتعل وهي ذاهبة لتكحل عينيها برؤيته، فالاشتياق له عارم، وبمجرد أن تراه حاضرًا بطلته البهية تبتسم حتى تظاهر تجاعيد وجهها، لتمنع نفسها من البكاء بغزارة وهي ترى والدها يستند على عكازه ولا يرى أمامه بشكل جيد، تود أن لو الزجاج الفاصل يزول وتسقط لتبكي بين أحضانه وتعوض كل سنوات الفراق.

يجلس على المقعد خلف الزجاج الفاصل ليستمع لصوت أحبته بهدوء، تحدثه رشا عن الأحفاد الأربعة عشر، وعن مشاكسات شام ويافا وسارة ويوسف، وكل الصغار، فيضحك من قلبه، يسأل عن جنين والحارة والأصدقاء القدامى، كانت أقسى لحظة على رشا حين يسأل عن شخص وافته المنية، فلا تعلم كيف تبلغه الخبر برفق، فقد فقد الأخت وأبناء العم والأصحاب دون أن يشبع منهم بعد، وبقيت الحكايات عالقة في المنتصف، فيردد بإيمان تام: "إنا لله وإنا إليه راجعون".


اقرأ أيضًا: السيدة حسنية أبو عون: خليفة الغازي على الأهل والبنون


شيخ الأسرى في الفترة التي قضاها خارج السجن، كان يظل جالسًا مع الناس، يُحب الونس والأُنس، يصطحب أصغر بناته اللواتي حرمن منه في عمر مبكر ليمارس أبوته، فيشتري لهن الحاجيات وكأنهن ما زلن طفلات ليعوضهن عن سنين الفرقة.

تثق رشا تمام الثقة بأن والدها سيعود من جديد لينير بيته، ويأكل كل أنواع الحلوى التي يحب، ويزور الرفاق كلهم، ويقول: "إييه لما كنت بالسجن" وتصبح السنوات مجرد ماضي يُحدثها للأحفاد ويبدأ من جديد في بيتنا المليء بالرضا.