بنفسج

هيفاء أبو صبيح: في أن تكوني أمًا وأسيرة

الثلاثاء 04 أكتوبر

في ليلة شتوية قارصة من ليالي ديسمبر، والسماء تعلن العصيان بالغيوم، ولمعان البرق يبث النور في الأجواء، وهدير الرعد يدب بقوة، تتلوه أمطار كثيفة، كانت هي في طريقها نحو المجهول، لا ترى بعينيها، تنصت بأذنها، ترتجف والأفكار تدق كالطبول في رأسها. كان طريقًا لا ينتهي من المرستان الذي يقيمه رأسها بأفكاره. "الكلبشات" في اليدين والقدمين. البرودة في العظم، والعصبة السوداء على العين، ونظرة الخوف والوجع في عين ابنتها لا تفارقها. يسحبها من أفكارها جندي يشتمها بألفاظ نابية، ومجندة تضغط على قدميها بقوة، والأخرى تدفعها نحو ظهر الكرسي الحديدي، فتزداد برودة وارتجافًا.

الطريق يطول، والقلب يعلن تمرده ويزداد نبضه، حتى وصلت إلى مكان مجهول، والأسئلة تجتاحها. حبسوها في "كونتير" حديدي بارد للغاية، دفعتها المجندة نحو الأرض ووجهها إلى الحائط، جاءها ضابط إسرائيلي "عطشانة"؟ أرادت من شدة العطش أن تقول نعم، لكنها تراجعت، فسكب الماء أمام عينيها، والكل يضحك بشماتة.

| الصدمة الأولى

هيفاء أبو صبيح حينما اعتُقلت في العام ٢٠١٥ كانت أكبرهم تبلغ من العمر ١٧ عامًا، تصف ليلة الاعتقال: "كانت الواحدة إلا ربع منتصف الليل، وإذ بالباب يدق بصوت عال، لم نستطع ارتداء ملابسنا، حتى ابنتي لم تكن قد استيقظت بعد. لم أفاجأ حقيقة بالاقتحام، لأن مداهمة سبقته قبل حوالي عشر أيام. حبسوا زوجي وأطفالي في غرفة عليها ثلاثة جنود للحراسة، وأخذوني نحو الصالة الرئيسة، أراهم عن قرب وهم يقلبون البيت رأسًا على عقب".
 
بتنهيدة طويلة وبحة صوت ارتجف لتوه من وجع الذكريات الأليمة تكمل لبنفسج: "كنت أشعر أنني في كابوس، وسأصحو فورًا، ولكنه طال، فجاءني جندي يخبرني بأنه عليَّ الدخول إلى الغرفة للتفتيش، دخلت رفقة مجندتين وبقي الباب مفتوحًا، طلبت إغلاقه لأخلع رداء الصلاة، ولكنهن رفضن ذلك، فجرت مشادة كلامية بيني وبينهن.

الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح تفتح دفتر الذكريات، وتروي لبنفسج عن يوم اعتقالها، وتجربتها في السجون الإسرائيلية، عن الألم الذي لا يزول بمجرد انتهائه، فتظل الندبة في القلب حاضرة، تحفظ كل حدث صار برغم مرور أعوام على اعتقالها، ولكنه عالق في الذهن. ذكريات لا تمحوها سنين، وهذا الذي يُقال عنه الذكرى الأليمة التي لا دواء لها ولا شفاء منها سوى الأمل في غد يخلو من سجون الموت الإسرائيلية.

هيفاء تعمل معلمة، ومؤسسة لفريق تطوعي لا يتبع لأي جهة يقدم الخدمات الإنسانية للمحتاجين، وأم لستة أطفال. حينما اعتُقلت في العام ٢٠١٥ كانت أكبرهم تبلغ من العمر ١٧ عامًا، تصف ليلة الاعتقال: "كانت الواحدة إلا ربع منتصف الليل، وإذ بالباب يدق بصوت عال، لم نستطع ارتداء ملابسنا، حتى ابنتي لم تكن قد استيقظت بعد. لم أفاجأ حقيقة بالاقتحام، لأن مداهمة سبقته قبل حوالي عشر أيام. حبسوا زوجي وأطفالي في غرفة عليها ثلاثة جنود للحراسة، وأخذوني نحو الصالة الرئيسة، أراهم عن قرب وهم يقلبون البيت رأسًا على عقب، لم يبق شيء مكانه. رفعت عيني في لمحة سريعة لأعد الجنود، فوجدتهم ٣٥ جنديًا في مساحة بيتي التي لا تتجاوز ١٤٠ مترًا".

كان امتحانًا صعبًا على هيفاء أن تُعتقل أمام أطفالها، فهذا سيظل عالقًا في فؤادهم إلى يوم يبعثون، ليس سهلًا على ابنة أن ترى والدتها تتعذب أمام عينيها، تذهب نحو التعذيب ممن لا يعرفون الرحمة، أثناء عبورها من أمام الغرفة التي يُحتجز فيها أبناؤها للخروج من المنزل، وقعت عينا الأم على ابنتها الكبرى، فرأت نظرة تقسم أنها لم تنسها منذ تلك اللحظة. آآه من قلة الحيلة، لم تستطع تفسيرها.

بتنهيدة طويلة وبحة صوت ارتجف لتوه من وجع الذكريات الأليمة تكمل لبنفسج: "كنت أشعر أنني في كابوس، وسأصحو فورًا، ولكنه طال، فجاءني جندي يخبرني بأنه عليَّ الدخول إلى الغرفة للتفتيش، دخلت رفقة مجندتين وبقي الباب مفتوحًا، طلبت إغلاقه لأخلع رداء الصلاة، ولكنهن رفضن ذلك، فجرت مشادة كلامية بيني وبينهن، حتى أنني قلت لهم أطلقوا الرصاص، لا يهمني، ولكني لن أخلع ملابسي والباب مفتوح. وبالفعل، أغلقنه بعد الشجار، وإحداهن أخذت ترتجف من خوفها مني بالرغم من وجود حاشية كبيرة في الخارج".


اقرأ أيضًا: مذكرات أسيرات: فصل جديد لميس أبو غوش


كان امتحانًا صعبًا على هيفاء أن تُعتقل أمام أطفالها، فهذا سيظل عالقًا في فؤادهم إلى يوم يبعثون، ليس سهلًا على ابنة أن ترى والدتها تتعذب أمام عينيها، تذهب نحو التعذيب ممن لا يعرفون الرحمة، أثناء عبورها من أمام الغرفة التي يُحتجز فيها أبناؤها للخروج من المنزل، وقعت عينا الأم على ابنتها الكبرى، فرأت نظرة تقسم أنها لم تنسها منذ تلك اللحظة. آآه من قلة الحيلة، لم تستطع تفسيرها! هل هي خوف أم قلق أم رعب أم بكاء يأبى أن يتمرد ويعلن السقوط، فكان هم الصغار الذين تركتهم يواجهون المعترك الحياتي همًا آخرَ لها في الطريق المجهول.

| الطريق نحو المجهول

وسط كل هذا التشديد من الجنود والتفتيش مرة واثنين وثلاثة، والشتم بألفاظ نابية، ظلت هيفاء محافظة على ثباتها الانفعالي، لم تسقط دمعة واحدة، تُصبر نفسها بذكر الله، تسلسلت الأحداث حتى وجدت نفسها أمام سيارة شرطة صغيرة، فُتح الباب وإذ بقفص حديدي بباب وأقفال، دخلته وهي مكبلة من اليد والقدم، كان المكان صغيرًا جدًا اختنقت هيفاء بداخله، ولكن ما أشعرها بالانتصار أن المجندة في الكرسي الأمامي ترتجف من الخوف مع كل حركة.

خرجت من منزلها وكأنها في موكب، يحاوطها الجنود من كل اتجاه، مكبلة الأيدي والقدمين، معصبة العينين، ولكن هذا لم يكسر شوكتها، ظلت قوية فرفضت مساعدة المجندة حين حاولت أن تمسك يديها لتركب الحافلة الكبيرة التي لا تراها أصلًا، تحسست طريقها وصعدت لتجلس على الكرسي الحديدي، وقتها شعرت بالبرودة تدب في أطرافها، غزاها البرد من الداخل وما زالت نظرة الابنة تحاوطها. وفي الطريق الطويل الذي لا تعلم وجهة له لم تكف المجندات عن مضايقة هيفاء بحقارتهن المعهودة، ولكنها كانت مشغولة بالآتي، إلى أين ستحملها هذه الحافلة، أين الوجهة، وكم سيطول الأمر؟

الانتظار يستهلك روح الإنسان وطاقته، يقضي عليه ببطيء، يجعل ثباته يتزعزع في لحظة ضعف، والأنفاس تضيق وكأنك في حفرة عميقة تود التحرر منها ولا تستطيع، هيفاء طال انتظارها كثيرًا حتى وصلت بعد ساعات إلى مركز عصيون للتحقيق، وأدخلوها في "كونتينر" حديدي، تقول: "دفعوني نحو الأرض ووجهي للحائط، وما زلت مكبلة لا أستطيع الحركة بحرية، شعرت بالبرد أكثر من ذي قبل إثر برودة الأرض. سمعتهم يتحدثون العبرية فيما بينهم، أما الشتائم لي بالعربية، بعد ساعات غادرنا المكان نحو حافلة أخرى؛ لم أعلم أين، ظننت أنني في الداخل المحتل، ولكنهم قالوا: كريات أربع. وهذه أكبر مغتصبة صهيونية في الخليل."

تكمل: "سألني ضابط هل تودين شرب الماء؟ وبالرغم من أنني من أولئك الذين لا تفارق زجاجة الماء يدهم، قلت لا وأنا عطشة للغاية، فسكب الزجاجة أمام عيني، ثم جاء بالطعام وسألني مجددًا "جائعة أنت؟"، قلت لا. فبدأ الأكل أمامي بشراهة لاستفزازي".

"وأنا في السيارة، مررنا شوارع لم أرها في حياتي، حاولت أن أقرأ اليافطات المعلقة ولكن لم أستطع بسبب السرعة، وصلنا إلى الداخل المحتل، ورأيت السهول الطبيعية التي نسمع عنها أو نرها في الصور، ثم وقعت عيني فجأة على يافطة سجن هشارون. لم أكن أعلم ماهية السجن، رأيت حواجز إسمنتية للتفتيش، حاولت أن أخمن كم الساعة ولكن لم أعرف."

وسط كل هذا التشديد من الجنود والتفتيش مرة واثنين وثلاثة، والشتم بألفاظ نابية، ظلت هيفاء محافظة على ثباتها الانفعالي، لم تسقط دمعة واحدة، تُصبر نفسها بذكر الله، تسلسلت الأحداث حتى وجدت نفسها أمام سيارة شرطة صغيرة، فُتح الباب وإذ بقفص حديدي بباب وأقفال، دخلته وهي مكبلة من اليد والقدم، كان المكان صغيرًا جدًا اختنقت هيفاء بداخله، ولكن ما أشعرها بالانتصار أن المجندة في الكرسي الأمامي ترتجف من الخوف مع كل حركة.

تقول لبنفسج: "وأنا في السيارة، مررنا شوارع لم أرها في حياتي، حاولت أن أقرأ اليافطات المعلقة ولكن لم أستطع بسبب السرعة، وصلنا إلى الداخل المحتل، ورأيت السهول الطبيعية التي نسمع عنها أو نرها في الصور، ثم وقعت عيني فجأة على يافطة سجن هشارون. لم أكن أعلم ماهية السجن، رأيت حواجز إسمنتية للتفتيش، حاولت أن أخمن كم الساعة ولكن لم أعرف، بعد ساعات انتظار أخذوني إلى ضابط ثم دخلت للعيادة الطبية، مشيت حتى بوابة حديدية فشاهدت فتيات من دون حجاب، ظننت حينها أنهم سيضعوني مع سجينات إسرائيليات، فجن جنوني، حينها فقط شعرت بالحسرة وباغتني الخوف في تلك اللحظة".

| تنكيل قاس

 
وسط الضوضاء التي تهب في رأسها، باغتتها أصوات الأسيرات وهن يعرفن عن أنفسهن، لم تسمع أي كلمة وتستوعب أنها في الأسر من صدمتها حتى لمحت خالدة جرار، فأيقنت أنها وسط فلسطينيات.
 
 تردف: "احتضتني خالدة، وقالت "هيفاء شو جابك لهون"، فبكيت بكاء المقهور، ثم هدأت وعرفتني على بقية الأسيرات لينا جربوني ومنى قعدان وغيرهن. سألتهن عن الساعة فأخبرنني أننا في وقت المغرب، أخذت نفسًا طويلًا وبدأت بتفقد يدي التي تنزف، وغادرت نحو زنزانة رقم ٤ رفقة أسيرة من حلحلول. ارتميت على البرش ومعدتي تؤلمني من البرد فتقيأت وكنت في حالة يرثى لها."

وسط الضوضاء التي تهب في رأسها، باغتتها أصوات الأسيرات وهن يعرفن عن أنفسهن، لم تسمع أي كلمة وتستوعب أنها في الأسر من صدمتها حتى لمحت خالدة جرار، فأيقنت أنها وسط فلسطينيات، تردف: "احتضتني خالدة، وقالت "هيفاء شو جابك لهون"، فبكيت بكاء المقهور، ثم هدأت وعرفتني على بقية الأسيرات لينا جربوني ومنى قعدان وغيرهن. سألتهن عن الساعة فأخبرنني أننا في وقت المغرب، أخذت نفسًا طويلًا وبدأت بتفقد يدي التي تنزف، وغادرت نحو زنزانة رقم ٤ رفقة أسيرة من حلحلول. ارتميت على البرش ومعدتي تؤلمني من البرد فتقيأت وكنت في حالة يرثى لها. بعد نصف ساعة أتت السجانة وقالت لك محكمة، قمت لتحضير نفسي فأصرت الأسيرات عليَّ أن أرتدي الشرباص "معطف الأسيرات". وسرت نحو المجهول مرة أخرى، لم أستطع المشي من شدة الوجع الذي يضرب عظامي من البرد".

في الليالي الباردة التي كانت الغيوم تعلن تمردها فيها، كانت تود هيفاء أن تتابع المطر من شباك منزلها وتردد الأدعية التي تحب أن تراها واقعًا، تحتسي كوب السحلب وتأكل الكستنة رفقة العائلة، ولكن أمر الله قضى ونفذ، فكانت راضية بقضائه، تتنقل في البوسطة نحو التحقيق. أول ليلة في الأسر أخذوها في منتصف الليل نحو التحقيق، فمرت ساعات وساعات للوصول إلى النقطة المطلوبة، ووسط كل هذا واجهت مضايقات ومنغصات في السيارة التي كانت تنقلهم.

"وجدت نفسي أمام ضابط يحقق معي، أخرج كومة من الورق، وقال لي ابن أختك قال عنك كزا كزا كزا، قلت له أنت كاذب، ثلاث ساعات ونصف الساعة وهو يجادلني وأنا أرفض كل الاتهامات الموجهة لي. صرخ وشتم وضرب بكل قوته على الطاولة حتى أن الجنود استنفروا في الخارج والمجندة التي تجلس قبالتي ارتجفت في مكانها وأنا لم تهتز لي شعرة، لا أعلم من أين أتاني كل هذا الهدوء والثبات".

تتابع حديثها لبنفسج والدمع كاد يفر من المقلتين، "تعمد الجندي ونحن في البوسطة توجيه التكييف علينا على الوضع البارد، ولكم أن تتخيلوا البرد حينها، لم أستطع التحمل، فكنت أرجف. وكانت معي فتاة أسيرة قاصر مصابة ولديها عجز في قدمها، بدأت بالصراخ: أنا بردانة، فطلبت منها أن تضع رأسها على قدمي لأدفئها، أخذنا نصرخ مجددًا أن يغلقوا المكيف ولكن لا استجابة".

تكمل هيفاء: "توالت الأحداث المريرة وانتقلت بالبوسطة نحو أماكن عدة، حتى وصلت إلى سجن "عوفر"، أدخلونا في زنزانة بمقاعد إسمنتية كبيرة، كانت ثلاجة بكل ما تعنيه الكلمة، كدت أموت من البرد وأنا أعنيها حين أقول إنني لم أكن أتحمل. حتى الحمام المرفق بالزنزانة الصغيرة غير صالح للاستعمال، بمجرد فتح الصنبور تبدأ المياه بالتسرب نحو الداخل تحت أقدامنا. قضيت الليل رفقة ثلاث أسيرات، وكنا جميعًا نرتجف من البرودة، حتى غادرنا في الثامنة صباحًا، نحو وجهة جديدة لا أعلمها".


اقرأ أيضًا: السيدة حسنية أبو عون: خليفة الغازي على الأهل والبنون


تضيف: "وجدت نفسي أمام ضابط يحقق معي، أخرج كومة من الورق، وقال لي ابن أختك قال عنك كزا كزا كزا، قلت له أنت كاذب، ثلاث ساعات ونصف الساعة وهو يجادلني وأنا أرفض كل الاتهامات الموجهة لي. صرخ وشتم وضرب بكل قوته على الطاولة حتى أن الجنود استنفروا في الخارج والمجندة التي تجلس قبالتي ارتجفت في مكانها وأنا لم تهتز لي شعرة، لا أعلم من أين أتاني كل هذا الهدوء والثبات".

| زيارة أليمة

IMG-20220911-WA0008.jpg
الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح

بعد ساعات قاسية في التحقيق عادوا بها حيث السجن، ومن محاكمة إلى محاكمة حتى وصلت ٤٢ محكمة، كانت محاكمات في أوقات غريبة ودون موعد محدد مسبقًا، حتى تكللت بحكم السجن  عام ونصف العام وغرامة مالية، وهنا بدأت هيفاء التأقلم مع واقعها راضية بكل ما أوتيت، نُكل بها ومُنعت من الزيارة، اشتاقت بشدة لأولادها الذين حرمت منهم وهم في أكثر مرحلة يحتاجونها. 4 أشهر في ألم يتجدد كل يوم حتى جاء يوم اللقاء المنتظر بعد دعوات لله بأن يمن عليها بزيارة فقط.

 تقول: "جاء أولادي لي بعد طول انتظار لوحدهم دون مرافق من العائلة، رافقتهم والدة أسيرة بسبب عمرهم الصغير، كانوا يظنون بأننا سنحظى بعناق ولكنهم فوجئوا بزجاج فاصل وهاتف، وسجانين هنا وهناك، 45 دقيقة وهم يبكون حتى تدمرت نفسيتي، حتى من قلة حيلتي وعدم استطاعتي تهدئتهم قلت لابني صاحب العشر سنوات إن بقيت تبكي هكذا لا تأتيني مرة أخرى، قسوت عليه، نعم، ولكني كنت في أسوأ حال حينها. انتهت الزيارة وخرجوا وعدت إلى زنزانتي حتى ظللت أقول لنفسي وأنا أبكي بكاء مريرًا: يا ليتني لم أحظَ بهذه الزيارة ولم أرهم بهذا الحال".

كنت أعرف أخبار عائلتي عبر إذاعة صوت الأسرى التي كانت تخصص برنامجًا يوميًا لأهالي الأسرى، أسمع صوت زوجي وأبنائي من خلاله، وبالرغم من التشويش الحاصل بسبب ضعف البث، إلا أنني كنت أثبّت الراديو على وضعية معينة حتى لا تشوبه الأصوات الأخرى وأركز فقط على صوت أهلي.

ليس لهذه الحياة ضامن متقلبة الحال ترفعك للأعلى ثم تسقطك في القاع، وما علينا سوى أن ندعو أن يكفينا الله شر فواجع الأقدار. خططت هيفاء وابنتها لخطة دراسية للثانوية العامة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، خاضت الفتاة الصغيرة عامها وحدها، ودعاء والدتها يحفها من كل اتجاه. تتابع هيفاء لبنفسج: "كنت أعرف أخبار عائلتي عبر إذاعة صوت الأسرى التي كانت تخصص برنامجًا يوميًا لأهالي الأسرى، أسمع صوت زوجي وأبنائي من خلاله، وبالرغم من التشويش الحاصل بسبب ضعف البث، إلا أنني كنت أثبّت الراديو على وضعية معينة حتى لا تشوبه الأصوات الأخرى وأركز فقط على صوت أهلي، وقبل نتيجة ابنتي بليلة كنت أحتضن الراديو لأفتحه في الصباح لأعرف النتيجة من الإذاعة، ولكن فجأة وبدون مقدمات جاءتني السجانة تقولي لي لك محكمة هيا لنغادر".

______-______-____________-11.jpg
الأسيرة المحررة هيفاء أبو صبيح مع أولادها

تكمل: "صُدمت، إذ لا محكمة لي في هذا التاريخ، خرجت وأنا أبكي قهرًا، بخروجي من الزنزانة، لن أعرف نتيجة ابنتي إلا بعد ثلاث أيام حين أعود للأسر، مرت الساعات وكأنها سنوات حتى وصلت إلى المحكمة. وبعد طول انتظار، جاء المحامي لأخبره أنني أنتظر نتيجة ابنتي، فخرج فورًا ليجري اتصالًا بزوجي الذي ثار فور معرفته بوجودي في المحكمة دون تبليغه. وبعد دقائق، أخبره بنتيجة ابنتي، جاءني والسجانة تدفعني بسرعة للمغادرة وبصوت مسموع قال لي: "مبروك بنتك نجحت ٧٨%"، برد قلبي حينها بالنتيجة، ولكني منذ ذلك اليوم وفي كل عام يوم نتائج الثانوية العامة أتذكر ذاك اليوم والطريقة التي علمت بها نتيجة ابنتي البكر، كسرة خاطري لم تداوها الأيام".

الأسر يعلمك الامتنان لله والحياة بكل تفاصيلها، للنعم الصغيرة التي لا ننتبه إليها. تذكر هيفاء لنا موقفًا عجيبًا من ذاكرة الأسر وتقول: "نحن في السجن لا تدخل لنا كل أصناف الطعام، حتى الدجاج لا يصل لنا منه إلا الفخذ فقط، فبعض الأسيرات لا يأكلن سوى الصدر. قضين سنوات لا يأكلن الدجاج ولكنهن يشتهينه. جاءتني في مرة أحداهن تخبرني بذلك، هل لكم أن تتخيلوا أن نتمنى أن نشاهد دجاجة كاملة أمامنا لنطهوها مع المقلوبة؟ توجهت إلى مدير السجن وأخبرته أننا نريد دجاجًا كاملًا وليس فقط جزءً، أبدى موافقته ووصلتنا حصتنا من الدجاج بعدها بمدة. لا أستطيع أن أصف لكم فرحة الأسيرات برؤية الدجاج كاملًا".

انتهي حديثنا مع هيفاء التي نالت حريتها منذ قرابة الستة أعوام، في استقبال مهيب في مدينة الخليل، توج باحتضان الأهل والأحبة، لكنها لم تنس عذابات العام ونصف العام التي قضتها في السجون الإسرائيلية. وكل ما تتمناه أن يفرج الله عن رفيقاتها اللات بقين خلف الجدران العاتية، وتختم قائلة: "قاموس الذاكرة ممتلئ بالكثير من الحكايا بعد، ولكن لا يتسع المقام هنا لذكره".