بنفسج

ما تبّقى لنا: قناديل قرآنية مضيئة

الإثنين 30 أكتوبر

ربما لن تأتي الطير الأبابيل محلقة من كبد السماء، ترمي حجارة السجيل، ربنا لن تهب الريح صرصرًا عاتية، وربما لن تنزل عليهم صاعقة العذاب أو صيحة تتشقق خلالها السماء، وربما لن يغرقهم الطوفان ويهلكهم جميعًا، ربما انتهى زمن المعجزات...فماذا بقي؟

ماذا بقي لجيل لا أنبياء فيهم، ولا وحي يواسيهم، ولا قوى معجزة تساندهم؟!

أرسل الله الأنبياء لأقوام ليوحدوا الله عز وجل، وأسندهم؛ كلّم موسى، وأوحى إلى محمد، وجعل لموسى وزيرًا. أمدهم بقوة إلهية خارقة للعادة، بعد عزم وقوة وصبر وجهاد وثبات رباط. مضت عقود، مضت سنون، فكيف نمضي إذن؟ الليل أحلك والظلم خيّم والظالم كذب وفسق وعصى وتجبر.

الحصار يشتد في زمن الحرب؛ قلّ الماء، ونفد الوقود، وانعدمت الموادر، وانقطعت الاتصالات، زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وكأننا يوم الخندق إذ يقول جل وعلا: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾. تظنون بالله الظنونا: أي تشكون بنصر الله؟ تسألون أين الله؟ ألا يرى عباده يقتلون ويذبحون؟ تهدم بيوتهم، ويموت أطفالهم، تهدم المدارس والمستشفيات، وتُنسف الشوارع، تزهق الأرواح كل دقيقة بوحشية ليس لها سابقة. تسقط الروح قطعقة قطعة، تنقطع الأنفاس شيئًا فشيئًا، ترهق القلوب، وتنفطر الصدور، وتنكشف الأفئدة ولكن قول الله نافد "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، و"كان حقًا علينا نصر المؤمنين".

لقد عرت الحرب هذا العالم، عُرف المقاتلون، المنافحون عن دين الله، الباقون في الميدان، الأوفياء، الذين يساندون ويدعمون ويرفعون. وعرف الجبناء المتخاذلون، عُرف من صمت، وعُرف من تحاشى وتغاضى وتعامى وتناسى ومضى ."وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ"، بل "إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ".

"مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ"،

والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء.

ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله، فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله.

وإرادة الله نافدة ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، هؤلا ء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير ، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه ووجوده؛ فيبث عليهم العيون والأرصاد، ويتعقب نسلهم فيرتكب بحقهم المجازر. هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد ؛ وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدًا ولا تابعين؛ وأن يورثهم الأرض المباركة التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح. وأن يمكّن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين.

ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله، فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله.

هكذا يعلن السياق، يعلن واقع الحال، وما هو مقدر في المآل؛ لتقف القوتين وجها لوجه: قوة الصهيوني المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير . وقوة الله الحقيقية الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس.

هذه هي القصة، والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها، وما ستنتهي إليه، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها. ومن ثم تنبض القصة بالحياة؛ وكأنها تعرض لأول مرة، على أنها رواية معروضة الفصول، لا حكاية غبرت في التاريخ، متجليًا ذلك في: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا".

"الَّذينَ يَظُنّونَ أَنَّهُم مُلاقُو اللَّهِ"، عامل حاسم في الرؤية والقراءة، عقلاً وعاطفة، حسابًا ماديًّا وحسن ظنّ بالله، فالذي يرجو لقاء الله، ويحبّ لقاءه على الدنيا، لا يكون كذلك إلا إذا علم أنّه وحده تعالى، ذو القوّة المتين، القاهر فوق عباده، وأنّ كلّ شيء خاضع له، فلا تُغشيه نار القوّة الغاشمة عن رؤية محدوديّة تلك القوّة، فمن لم يكن كذلك، فلا ريب أنّه ساقط في الجزع.