بنفسج

رسائل الرحيل: هنادي النجار.. الش@يدة وخطيبة الأسير

السبت 04 نوفمبر

في غزة اليوم رحل أكثر من 9000 حلمًا، ذهبت آلاف القصص، اندثرت آلاف الأحاديث...وأين هي الأسماء؟ عمر ومحمد وإبراهيم وفاطمة وعلياء.. أين ذهبت صورهم وملابسهم وألعابهم ورسوماتهم؟ يحكى أن... أحلامًا مزدحمة اصطفت في دور طويل، طويل جدًا. أبطال وبطلات، جميلون وجميلات، شجعان وشجاعات، لا يمكن وصف هؤلاء الأبطال؛ حماستهم، عنفوانهم، طموحاتهم، تعليمهم، حلهم وترحالهم، مشاريعهم، رسائلهم. ويروى في القصة أن الغول قرر أن يحولهم إلى أرقام، هكذا دون وجه حق، كما يروى أن أحدًا لم يقف بوجهه، ففعل!

النهاية

نائل 4.jpg

هذه إحدى القصص، حُكيت في بنفسج، استمعنا إليها، وتلذذنا بها، تواصلنا مع بطلتها أيامًا وتفاعلت هي بكل حماس؛ إذ كانت ترسل يوميًا وتسأل عن موعد النشر، تريد لقصتها أن تُروى وأن يقرأها العالم...وها نحن نقرؤها...ولكن كانت قد رحلت بالأمس القريب!

يحكى أن بطلة هذه القصة، فتاة جميلة، بهية لطيفة، كانت تظل مشغولةً طوال الوقت، تضع الأشياء وتنسى مكانها، تُجهِّزُ دعوات الفرح، وتضع قائمةً طويلة لأجمل محلات الزفاف. تعدُّ الأشياء التي أتمَّتْها لتشعر ببركة الإنجاز. فبطلتنا عروس، هنادي النجار، فلتحفظوا الاسم. العروس التي وهبتْ 12عامًا من عمرها وهي تنتظر يوم الفرحة الكبرى في الإفراج عن خطيبها الأسير نائل النجار (44 عامًا). كانت كلُّ تلك السنوات دليلًا مُطَمئنًا للقرار التي اتخذته هنادي في ارتباطها بأسيرٍ محكوم بـ 20 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

قالت العروس: "لم أفكر مرتين"، هكذا روت "لبنفسج"، وهي تستذكر تفاصيل اليوم الذي تقدَّم فيه نائل لخطبتها. "كنتُ بعمر العشرين حين جاءتني أمي مُبتسمةً تحدثني عن ابن أخيها نائل، ذلك الشاب الذي "دوَّخ" الاحتلال بشجاعته ونضاله. عرفتُ معنى ابتسامة أمي وتدرُّجها في الحديث، إلى أن باحت بالسر: نائل تقدَّم لخطبتك يا هنادي، والقرار قرارك أنتِ فقط".

ألقتْ الأم كلماتها وتركتْ هنادي لتبدأ مرحلة التفكير العميق كما أشارتْ إليها، إلَّا أنَّ قلب هنادي كان يقول: "نعم، قبلتُ به زوجًا ورفيق نضال". لم يكن هذا الجواب نتيجة طيشٍ أو هوىً عابر. فسيدةٌ كـهنادي، عُرفِتْ بين أفراد عائلتها بحبها لوطنها، ودفاعها المستمر عن قضية الأسرى الفلسطينيين، وتضامنها مع كل الأحداث التي تشهدها ساحة النضال الفلسطينية. لذلك لم يكن غريبًا عليها أن تجلس وسط جاهة عائلة النجار، وهي تقول: "نعم قبلتْ".

تابعتْ هنادي تفاصيل الخطبة من اللحظة التي بدأ فيها نائل بإعداد الأوراق اللازمة لعمل الوكالة من خلال الصليب الأحمر. استغرق هذا الأمر الكثير من الأسابيع، ليسمح الاحتلال بوصول هذه الورقة إلى الصليب الأحمر في قطاع غزة. تمَّتْ هذه الإجراءات وسط حضور الأهل والأصدقاء، وارتدتْ هنادي خاتمًا نُقِش عليه تاريخ 7/1/2013، وحرفين من اسمها واسم رفيقها نائل.

لم تجلس هنادي تعدُّ الأيام فقط، بل تابعتْ مسيرتها وهي تحمل وسام "خطيبة الأسير"، فتابعتْ دراستها في كلية إدارة الأعمال، وتخرَّجتْ بنجاحٍ باهر. وحملتْ على عاتقها كلَّ مسؤولية مرتبطة بخطيبها نائل، فأخذتْ العهد على نفسها أن يخرج نائل من السجن لتكون كلُّ أحلامه التي باح بها محققةً دون نقصان، فبدأتْ هنادي ببناء بيت الزوجية، حجرًا حجرًا، وجهَّزتْ كل التفاصيل اللازمة من تجهيز أثاث البيت وترتيبه. وأحضرتْ هاتفًا ذكيًّا باسم خطيبها وخبَّأته بين الهدايا الكثيرة التي اقتنتها ليوم الفرحة الكُبرى.

شوقٌ بـ 45 دقيقة

نائل 6.jpg

كانت توظب هنادي على زيارة خطيبها بعد عقد القران، وعلى قدر كل الخيالات التي رسمتها لطبيعة الطريق من غزة وصولًا إلى سجن نفحة حيث يقبع خطيبها، إلَّا أن الواقعَ كان أشدُّ ألمًا. ولم يكن ليهوّن عليها كل هذا التعب سوى حلاوة اللقاء بنائل وسرد كل التفاصيل التي تعيشها. ورغم أن الوقت الذي تسمح به إدارة السجن لا تتجاوز الـ 45 دقيقة لكل زيارة، إلَّا أن هنادي تحرص على استغلال كل ثانية في الحديث مع خطيبها، وسؤاله عن احتياجاته وأمنياته التي يحلم بها بعد الإفراج. تستذكر هنادي في هذا الحديث أكثر المواقف التي لا يمكن أن تنساها في أحد الزيارات، حيث كانت تعاني من إرهاقٍ شديد، حاولتْ أن تخفيه عن نائل، ومع إلحاحه المتكرر، لم تتمالك هنادي نفسها فبكتْ، فما كان من نائل إلا أن ترك سماعة الهاتف متجهًا نحو الباب، لعلَّ السجان يسمح له بمواساة هنادي أو التخفيف عنها. عاد نائل ممسكًا سماعة الهاتف واضعًا يده أمام الزجاج الذي يفصل بينه وبين خطيبته قائلًا: تخيلي يدي تُطبطبُ على كتفك يا هنادي.

طريقٌ صعب

نائل1.jpg

 

لم تكن موافقة هنادي ترتبط بقبول الزواج فحسب، بل إن هذا الأمر يتعلق بجوانب وخصوصيات كثيرة لا يمكن أن تتحملها أي إنسانةٍ عادية؛ فارتباط سيدةٍ بأسيرٍ يقبعُ في سجون الاحتلال الإسرائيلي له الكثير من الوقفات التي لا بد من الحديث بخصوصها. بدءًا من طريقة عقد القران، وتفاصيل العادات والتقاليد المرتبطة بالخطبة، ومعاناة الزيارة واعتراف السجان أو رفضه بقبول زيارة الخطيبة لخطيبها الأسير، وصولًا إلى المدة المحكوم بها الأسير، وسنوات الانتظار التي قد تطول في أحيانٍ كثيرة. لم تتوقف التحديات عند هذا الحد، فبعض الكلمات التي تُلقى في طريق خطيبة الأسير، كفيلةً بقياس الحب والتمسك الذي تكنُّه كل خطيبةٍ لخطيبها.

" مسكينة هنادي، تضيِّع شبابها عبثًا"، "ستنتظرين 12عامًا وعندما يخرج سيتزوَّج عليكِ". هذه بعض من العبارات التي كانت تسمعها هنادي، لتتراجع عن قرار انتظار نائل، إلَّا أنها حوَّلتْ كل هذه الأشياء إلى قوةٍ تتسلَّح بها. فكان كلُّ تركيزها على الوقوف بجانب خطيبها، فلم تترك وقفة تضامن أو مسيرة رفض واحتجاج إلَّا وشاركتْ بها. وأبرزها عندما تضامنت هنادي مع خطيبها عقب خطوة الإضراب عن الطعام الذي خاضه الأسرى عام 2016، فأضربتْ هي الأخرى عن الطعام، حتى تدهورتْ صحتها، ونصبتْ خيمة اعتصام في ساحة السرايا، مطالبةً جميع وسائل الإعلام المحلية والدولية بتوجيه الاهتمام لهذا الإضراب. نجحتْ هنادي في هذا الطريق، حتَّى أصبح نائل يلقِّبها بـ "الجندي المغوار" ويناديها بـ "السند القوي".

يوم لقاء وشهادة

نائل 2.jpg

27/10/2023، لم تحفظْ هنادي في حياتها تاريخًا كهذا التاريخ، فتراها عبر صفحتها الشخصية قد وضعتْ عدَّادًا يوميًا يبشِّرها بقرب اللقاء الكبير، فهذا التاريخ الذي سيخرج فيه نائل من السجن، لتستقبله عروسه هنادي بثوب التطريز الأبيض الذي أعدته خصيصًا، مع خاتم الزفاف، وأطواق وردٍ نقشتْ عليها عبارة: "وانعقد القلب بالقلب يا نائل". انعقد رباطًا أبدًا خالدًا في حلمها ورسائلها وبيتها الذي عمرته بقلبها، استشهدت العروس في مجزرة خان يونس بالأمس، قرر الغول هدم أحلامها وحكاياتها ورسائلها وشوقها وحماستها... رحلت هنادي، ورحلت كل القصص، ولم يخرج نائل من أسره في الموعد المقرر كإجراء عقابي لأسرى غزة، ولا ندري عنه شيئًا. هل وصلك خبر استشهاد حبيبتك يا نائل؟ ماذا فعلت بقصصك أنت أيضًا وما ستفعل؟ كيف ستدرك نفسك برسائلها وكلامها وحديثها... وكيف ستدخل بيتكما الذي زينته، هل تقوى وهل نقوى على استيعاب كل هذا الحزن يا نائل...

وداعًا أيها العروس... وداعًا