بنفسج

شهادات حيّة: أمطار غزّة وقصص اللاجئين

الجمعة 17 نوفمبر

قبل شهرٍ من الآن كنتُ أتحدث مع صديقتي نور عبر الواتساب آب، وهي تصف لي أمنيتها في قدوم فصل الشتاء؛ هربًا من حر الصيف. كانت تسرد لي خيالها المُشاكس وهي تجلس جانب شباك بيتها الجديد، وفي يدها كأس كبير من الشوكولا الساخنة، تتأمل زخَّات المطر، وتلتحف بلحاف الفرو الذي اشترته بذاك السعر الغالي وخبَّأته خوفًا من غضب أمها. وعدتني أن تلتقطَ الكثير من الصور وترسلها لي، بل إنها قررتْ أن تصبح شاعرةً "ولهانة" وهي تكتب في حب الشتاء والأمطار قصائدَ غزلٍ طويلة.

حسنًا، لقد جاء الشتاء، ماذا بعد؟

مطر4.jpg

جاء الشتاء وأمطرتْ أمطار الخير تمامًا كما تمنَّت "نور" لكن الفارق كبير، كبير جدًا، فهذه الأمطار تحوَّلتْ إلى وجع، وهذه الزخات التي تمنتها صديقتي اختلطتْ بين الأرض ووجنتيها. جاء الشتاء ونور تجلس في خيمة النزوح بإحدى مدارس الأونروا في مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، تبكي بيتها الذي أصبح رُكامًا، ترتجفُ بردًا وهي تبحث عن أيِّ غطاءٍ يدفئها، -ولو كان خفيفًا-. تتناوب وأختها تثبيت الخشبة الوسطى التي تُسند الخيمة المُهترئة، خوفًا من سقوطها عليهم، وانكشاف السقف النايلون الذي وُجِد بعد ساعاتٍ طويلة من البحث والسؤال.

سألتُ نور بسرعة، قبل انقطاع الإنترنت، كيف تجلسون الآن؟! ماذا افترشت على الأرض؟ ضحكتْ على سؤالي، وهي تُذكرني "بالحصير" القديم الذي كنَّا نستخدمه قبل سنواتٍ طويلة. "نستخدم الحصير هل تذكرينه؟! على الأقل لا يمتص ماء المطر، ويجف بسرعة". تتابع نور: " أجلسُ الآن على صوت نقاط الماء التي تترسب من السقف النايلون وتتجمع في دلوٍ قديم، خصصناه لهذا الأمر. فنحن منقطعون من الماء منذ أكثر من عشرة أيام، وبالتالي فإن هذا الإناء سيكون ماء شربنا إلى أن نأتي بدلوٍ آخر".

انقطع الإنترنت وصوتُ نور المُتقطِّع يقول: "ادعي أمانة يوقف المطر، ادعي قبل ما نموت من البرد والتعب والقهر". كيف تبدَّل الحديث في أقل من شهر يا نور، كيف تحوَّل كأس الشوكولا الكبير إلى أمنيةٍ تتبدَّل بكأس ماءٍ نظيف؟! وكيف تبدَّل البيتُ الكبير الدافئ بخيمة نايلون لا تقي بردًا ولا وجعًا؟!

من مخيمات اللجوء إلى مدارس الأونروا

مدارس شتاء.jpg

من مخيمات النزوح في مدارس الأونروا، إلى مخيمات النزوح في مستشفى ناصر الطبي في خان يونس، تحدِّثني الصحفية هلا: "الكلُّ يعرفنا في غزة، نحب الشتاء كما نحب الحياة كثيرًا، ولنا في الشتاء طقوس جميلة على فكرة، من الصور التي نلتقطها، واللباس الجميل الدافئ الذي نرتديه، وأنواع المشروبات والمأكولات، لكن كل هذا تحوِّل إلى كابوس. هذه المرة رفعنا أيدينا ندعو الله أن يوقف المطر، فلا مكان لنا نحتمي به، الخيمة لدينا ولدى الكثير من النازحين بسقف نايلون مثقوب. تخيلي حجم المعاناة وأنت تنام كل ليلة وعينك على السقف المثقوب الذي يتسرب منه الماء؟! نحاول أن نجد حلولًا للحصول على الدفء لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل، حتى الأغطية التي حصلنا عليها بغية الدفء، غرقتْ معنا بالماء والتراب والأوساخ، وكل ما جُمع من حطب لاستخدامه في الدفء والطبخ، تبلل بالماء فلم يعد صالحًا للاستخدام.

"في الخيمة المُقابلة لنا يوجد سيدة أنجبتْ طفلها الأول قبل عشرين يومًا، وما زالتْ تعاني آلام الولادة جرَّاء إجرائها عمليةً مفتوحة "قيصرية"، وعندما أمطرتْ وارتجفتْ من البرد، كلُّنا سمعنا صوتَ صراخها من الألم، فجرح الولادة ما زال حديثًا.

تروي لي هلا بعض المشاهد لجيرانها النازحين من مناطق الشمال إلى مخيمات النزوح في خان يونس: "حصلتْ جارتنا أم ثائر بعد شهر كامل من المعاناة على القليل من الدقيق، لقد كان هذا الأمر كفيلًا أن تحتفل به عائلتها المكونة من 20 شخص ما بين أبناء وأحفاد. كانت خطتهم أن يخبزوا نصفه اليوم، وما تبقى يخبئونه إلى اللحظة التي يبلغ فيها جوعهم حاجةً كبيرة لاستكماله. عندما حلَّ الصباح أخرجتْ أم ثائر "الصاجية" ووضعتْها على الحطب لتبدأ عمل خبز الصاج، وما أن بدأتْ بإخراج الدقيق حتَّى هطل المطر بغزارةٍ كبيرة واختلط الماء بالوعاء الذي كانت قد جهَّزت فيه خبز الصاج، وطار سقف خيمتها النايلون ليدخل ماء المطر إلى كيس الدقيق المتبقِّي لِيُنهي أملهم الأخير بالحصول على عشاء يومهم.

تتفاقم معاناة النازحين في المخيمات، خاصةً مع وجود مرضى وأطفال ومُصابين جرَّاء قصف المئات من البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وما يزيد المعاناة أكثر، كيفية العناية بهم تحت زخات المطر الغزيرة، أو حملهم والهروب بهم تحت أي سقفٍ آمن. تُحدِّثنا إحدى النازحات وصوتها يُحشرج بكاءً ودعاءً ويدها على حفيدتها الصغيرة المريضة، وهي تقول: "ها هي أمطرتْ وتبللت ثياب الصغار التي لا نملك غيرها، وغرقنا وغرقت "البطانيات" التي كانت تمثِّل أملًا وحيدًا للدفء. كيف لي أن أحميهم الآن وأنا لا أملك أي وسيلة لتدفئتهم، فأنا هنا مسؤولة عن 30 فردًا ولا رجل معنا يعيننا ويجد لنا حلًّا لتثبيت الخيمة أو إيجاد أي أغطية تدفء صغارنا، فكلُّ من حولنا يعيش المعاناة نفسها وربما أكثر منا".

تتابع حديثها: "في الخيمة المُقابلة لنا يوجد سيدة أنجبتْ طفلها الأول قبل عشرين يومًا، وما زالتْ تعاني آلام الولادة جرَّاء إجرائها عمليةً مفتوحة "قيصرية"، وعندما أمطرتْ وارتجفتْ من البرد، كلُّنا سمعنا صوتَ صراخها من الألم، فجرح الولادة ما زال حديثًا، حتَّى أنَّها لا تستطيع الوقوف والهروب إلى أي مكانٍ تحتمي به من البرد، فما كان من أمّها إلَّا أن أنقذتْ حفيدها الرضيع وركضتْ به إلى أحد الصفوف المكتظة إلى أن يتوقف المطر، وتركتْ ابنتها تبكي وجع جرحها وحسرتها في الخيمة المبللة".

ماذا تبقَّى بعد هذه المعاناة؟!

ماء.jpg

في لحظةٍ ما، تشعر أنَّك تسمع قصصًا مُقتطعة من أفلامٍ حزينة، لكنَّها الحقيقة وهذا الواقع الذي تعيشه مدينة غزة منذ أكثر من 40 يومًا جرِّاء القصف الوحشي الذي تشنه طائرات وزوارق ودبابات الاحتلال الإسرائيلي. في هذه الحرب لم يسلم أحد، فالمجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي فاقتْ العد والوصف. فكلُّ من هُدِم بيته وخرج من تحت الرُّكام حيًّا يُرزق لا مكان يأويه وأسرته المتبقية، اضَّطر للذهاب إلى مخيمات النزوح المأساوية، التي يمكن أن تتعرض للقصف في أي لحظة، إمَّا بالقصف الكامل، أو استهداف الأماكن المحيطة بها وإطلاق قنابل الفسفور المحرمة دوليًا.

رغم تفاقم المعاناة ما بين قصفٍ وارتكاب مجازر، وقطعٍ في الكهرباء والماء والطعام وانعدام مقومات الحياة الأساسي، والأمن والدفء، وعدم وجود مأوى صالح إلَّا أنَّك تجد الفلسطيني يخرج من تحت أنقاض بيته وأشلاء طفله بين يده قائلًا: الحمد لله حتى ترضى.