بنفسج

الهُدنة في عُرف الحرب: ماذا سيفعل الغزيّون؟

السبت 25 نوفمبر

كان من المفترض أن يبدأ هذا الصباح بمعادلةٍ مختلفة، كأنْ تشرق شمسٌ هادئة تتسلل من ستارة الغرفة، أو أن يتذمر آخر العنقود احتجاجًا على كأس الحليب، ويتأخر إخوته عن موعد باص المدرسة. كلُّ شيءٍ تغيِّر بين ليلةٍ وضحاها، إنَّها الحرب وويلاتها، وجعُ الأمهات، وصرخة الثكالى، وضياع تعب السنين وشقاء العمر بلحظةٍ واحدة.

هذا ما تعيشه نساء غزة منذ ما يقارب الـ 47 يومًا، لم تقتصر الحرب هذه المرة على القتل والتدمير والتشريد، لقد تجاوز الاحتلال بطغيانه وعنجهيته ما امتد إلى حرب الحرمان من أدنى مقومات الحياة، بدءًا من سياسة التجويع والحرمان من المياه النظيفة، وقطع الكهرباء، ومنع دخول الوقود، ناهيك عن استهداف وقتل كل ملامح الحياة إذا ما قرر أحد البائعين عرض شيئًا من بضاعته القديمة، لمساعدة الناس التي أصبحتْ تبحث عن أي شيءٍ يعينهم ويدفئ أطفالهم.

هُدنة: ماذا فعلت الحرب؟

هدنة 4.jpg

على مدار الأسبوعين الماضيين وأكثر قليلًا، عرف الصغير قبل الكبير أنَّ هدنةً مشروطة تحلِّق في الآفاق، وما بين يومٍ ويوم طال انتظار خبر الإعلان عن موعد الهدنة، إلى أن خرج ضوء الخبر الصحيح ليُعلَن عن وجود هدنة حقيقية لمدة أربعة أيام يتوقف خلالها إطلاق النار.

أربعة أيام في قاموس غزة تعني فرصة لمعرفة ماذا فعلت الحرب فينا، من عاش ومن استشهد؟ من بقي بيته قائمًا ومن تساوى بيته بالأرض، تعني استغلال كل دقيقةٍ بالمعنى الحرفي، أربعة أيام بدون قتل أو صوت طائرات أو سماع صوت صراخٍ واستغاثة من تحت أنقاضِ بيتٍ قريب. أربعة أيام تعني أن يبحث الأحياء عن أهلهم وأصحابهم، ويبرِّدوا نار قلبهم ليعرفوا إن كانت أنفاسهم ما زالت تشاركهم هواء غزة أم أنَّهم رحلوا دون عزاءٍ وتشييع.

أمنياتٌ مُعلَّقة... ماذا سنفعل في الهُدنة؟ 

هدنة 3.jpg

حاور "موقع بنفسج" عددًا من النساء الغزِّيات اللواتي كان لهنَّ حظًّا بوجود انترنت وإشارة استقبال، لنروي شيئًا من الأماني التي يردنَ تحقيقها خلال هذه الأيام الأربعة.

أم أنس، أو كما تحب أن تنادي على صغيرها الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام "أنوس"، وابنتها فدوى ذات الستة أعوام، تقول: " عندما سمعتُ عن وجود هدنة دعوتُ الله أن تكون شيئًا يهدئ ضجيج قلوبنا قليلًا، وضعتُ الكثير من الخطط، أولها أن أحضرَ ملابس الشتاء لصغاري أنس وفدوى. فعندما خرجنا من بيت حانون قبل شهر لم نعرف أن أيام الحرب ستطول، فلم نأخذ معنا ملابس شتوية، والآن بدأ المطر ينخر عظام أطفالي، وقلبي يتقطَّع عليهم وهم يرتجفون صباح مساء من شدة البرد."

هدنة 6.jpg

أمَّا الشابة العشرينية روند، والتي شهدت 3 حروب سابقة أصبحتْ خبرةً بمعنى الهدنة وقوانينها وما يسبقها من أحداث، تقول: " لا أُخفيكِ سِرًّا أني شعرتُ بالخوف عندما سمعتُ أن الهدنة ستتحقق وأخيرًا، لأني من خبرة 3 حروب قاسية وعدد كبير من التصعيدات والأحداث المختلفة على مدار السنوات السابقة، أعرف أنَّ الساعات السابقة للهدنة يكون فيها القصف هستيري، ولا يسلم أي مكان سواء مدرسة أو مسجد أو بيت من قصف الطائرات والمدفعيات، وهذا ما حدث فعلًا منذ ساعات الليلة الماضية."

"سأبحث عن أولادي، وأعرف إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة أم رحلوا وتركوني كما فعل أخوهم الكبير نائل." كانت هذه الأمنية الوحيدة للنازحة أم نائل، والتي أُجبِرتْ على ترك مدينة غزة بعد استشهاد ابنها البكر وهو في طريقه إلى المخبز، في حين أنَّها خافت على أبنائها الأربعة المتبقين وقررت النزوح إلى إحدى مدارس الجنوب وحدها، خشيةَ أن يتم اعتقال أحد أبنائها في الطريق الذي ادعى الاحتلال أنه ممرٌ آمن.

قبر.jpg

الجريحة أم محمد، التي أُصيبت ومعظم أفراد عائلاتها إصاباتٍ خطيرة جرَّاء قصف طائرات الاحتلال لمنزل جيرانهم في الشجاعية، تقول: "أريد أن أبحث عن قبر حفيداتي، لا أعرف إن تم دفنهنَّ أم لا، تركناهم في مستشفى الشفاء ولم نتمكن حتى من وداعهن. كتبتُ أسماءهنَّ على أيديهن؛ لأضمنَ أنهنَّ لن يُدفنَ في مقابر المجهولين."

أمَّا يسرى فقد كانت أمنيتها صعبة كثيرة، عندما جهزت نفسها لتعود إلى غزة وتتفقد بيتها، فهي لا تعرف إن كان مازال موجودًا أم أصبح أثرًا بعد عين كما أخبرها أحد جيرانها في تل الهوا. لكن تفاجأت يُسرى أن الهدنة لا تسمح للنازحين من الجنوب العودة إلى بيوتهم في غزة وتفقدها أو حتى البحث عن الشهداء الذين ما زالوا تحت الرُّكام.

الأمنية الجامعة... لحظة هدوء واحدة 

بكاء.jpg

تعددت الأمنيات، كلٌّ حسب وضعه وحالته، فهذه روان التي لم تتوقف عن التفكير في لحظة المخاض، في ظل عدم وجود مشافي أو مستلزماتٍ طبية تساعد في إتمام ولادةٍ صحية دون وجود مخاطر أو مخاوف، فكانت أمنيتُها أن يأتيها المخاض خلال هدنة الأربعة أيام، لتضمن إمكانية الخروج وتدبير بعض الحاجيات اللازمة لولادتها، أو حتى ضمان أن ابنتها الوليدة ستسمع صوت أمها للمرة الأولى دون أن يعكره صوت طائرةٍ أو صاروخ قاتل.

أمَّا سماح فضحكتْ عندما سألتُها ماذا ستفعلين في أيام الهدنة؟!"سأبكي براحتي" دون خوفٍ أو قلق، "مهي هدنة".لم تكن هذه أمنية سماح وحدها، بل إنها أمنية معظم الغزِّيات اللواتي ينتظرن أي لحظة هدوء، يجلسن مع أنفسهن، ويأخذن هدنةً من شد الأعصاب وكبت المشاعر، ونعي من فقدوهم من أهلهم وأصحابهم، واحتضان كل الذكريات والأحلام التي قُتلتْ تحت ركام بيوتهم.