بنفسج

"يابُني اركب معنا": الطوفان الذي يُغرق ويُنجي

السبت 25 نوفمبر

نتفق جميعًا بأنّ مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر التي خلفت طوفانًا جارفًا ليست كما قبلها. المجرياتُ التي تحدث كل يوم تكتب التاريخ وتعيد ترتيب الأولويات، ولو سُئلنا عن أبرز ما حملته تداعيات هذه الأحداث لكان الجواب تغيير الصورة السّائدة بشكلٍ غير مسبوق؛ من السّكون إلى الحركة، من الضبابية إلى الوضوح، من القعود إلى الجهاد، ومن الجهل إلى العلم؛ فالأمر أشبه بثورة كاشفة تحمل من الثمار ما تحمل، وتتقاطع مع عديد من الأحداث التاريخية والخلفيات العقائدية التي تؤكد أن طريق الطوفان هو الطريق، وأنّه لا خيار ثانٍ لنيل النصر سوى خوض المكابد وبذل التضحيات. 

وفي غمرات هذا الطريق نحو النصر الأكبر، تتجلى انتصاراتٌ صغرى قد لا يلحظها معظمنا؛ هاته الانتصاراتُ التي تحاكي قطرات الغيث المتساقطة واحدةً تلو الأخرى والتي تكون محلّ احتقار ولا اكتراث لكنّها  تنتج في النهاية سيلًا غزيرًا يعمّ به النفع. الحديث هنا عن أربع نقاط رئيسية -أو لعلها أكثر-  لفت الطوفان انتباهنا إليها: إعادة ضبط البوصلة، واعتناق مفهوم القضيّة، والاستعداد بغية الاستمداد وأنّه لا نصر بالمجان.

الطوفان يردّ البوصلة إلى مكانها

ردود فعل العالم الغربي على أحداث غزة كانت أشبه بصفعةٍ أعادت إيقاظ الجميع من سبات طال، حتى الغربيين أنفسهم.
 
البروباغاندا الإعلامية المضللة، وتحريف الأحداث، والسكوت الطويل والتبرير للمحتلّ كلّ ذلك أبرز حقيقة أنّ هؤلاء لا نشبههم ولا يشبهوننا، وأنّ القوانين الدولية مجرّد خرافة عفا عليها الزّمن لأنّها لا تخدم سوى الرجل الأبيض

وقعنا كعالم عربيّ وإسلامي منذ عقود تحت كماشة الاستلاب الثقافيّ والعيش الهجين. واجتمعت مجموعة كثيرة من العوامل التي ساهمت في هذا الأمر بدءًا من الاستعمار الغربيّ، إلى القومية العربية وصولًا إلى حرب العراق ثم الثورات العربية. 

لقد كانت هذه المنطقة بشكل أو بآخر ضحية مجموعة من العقد الدونية التي ورثها الاستعمار على حدّ قول فرانز فانون في كتابه "بشرة سوداء أقنعة بيضاء": "إنّ كل شعب مستعمر، أي كل شعب نشأت في صميمه عقدة الدونية بسبب دفن الأصالة الثقافية المحلية يتموضع بإزاء لغة الأمة المتحضّرة، أي ثقافة المتروبول" ثمّ عززتها العولمة التي مسحت كلّ أثرٍ متبقٍ لمظاهر الثقافة واللغة، بالإضافة إلى تلك الخيبات المترتبة عن فشل القومية، واحتلال العراق وانحراف الثورات العربية بشكلٍ مأساويّ عن مسارها المراد والتي خلفت شيئًا من الركون ثمّ الاعتياد والنسيان.  

ردود فعل العالم الغربي على أحداث غزة كانت أشبه بصفعةٍ أعادت إيقاظ الجميع من سبات طال، حتى الغربيين أنفسهم. البروباغاندا الإعلامية المضللة، وتحريف الأحداث، والسكوت الطويل والتبرير للمحتلّ كلّ ذلك أبرز حقيقة أنّ هؤلاء لا نشبههم ولا يشبهوننا، وأنّ القوانين الدولية مجرّد خرافة عفا عليها الزّمن لأنّها لا تخدم سوى الرجل الأبيض، وأنّ استهلاكنا للمنتجات المحلية بدل تلك التي تدعم الاحتلال لم ينق من أعمارنا وراحتنا شيئًا، وأنّ في حضارتنا العريقة الممتدة لعقود طويلة ما يغنينا عن كلّ هذا الاتباع والانهزام. لقد حرّف الطوفان بوصلتنا نحو الجادة، نحو ما يشبهنا ويشبه ثقافتنا، نحو ما ننتمي إليه بحقّ، وأنّ الفطرة الإنسانية أسلم من الطبيعة الوحشية، لأنّ الأولى تجيد الإبقاء على التوازن في هذا العالم، والثانية لا تقول لنا سوى ما قاله نيتشه على صوتها: "تخلّص من الضمير ومن الشفقة والرحمة، تلك المشاعر التي تطغى على حياة الإنسان الباطنية، اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم". 

 بروز مفهوم القضيّة

أقصى.jpg

بعد انحصار الهم الجماعي لسنوات عديدة، وتقوقع كل فرد منّا حول ذاته بشكلٍ أكسبه مع مرور الوقت أنانية ولا مبالاة بمعاناة الغير في الإطار الاجتماعي الذي يجمع الكلّ، برز مفهوم القضية كي يوحّد الأمة من جديد على أكثر القضايا العادلة في هذه المعمورة، قضية شعب يواجه كل يوم محتلًا يعيث فسادًا في أرضه ومقدساته ويسلب ذاكرته وثقافته، القضية ذاتها التي حملها كلّ مستعمَرٍ في إفريقيا وآسيا، ودفع كلفتها كلّ السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا، القضية التي ترفض غطرسة الرجل الأبيض وكبره وأنّ له حدودًا لا يجوز له أن يتعدَّاها مهما بلغ من التجبّر. 

هذه القضية هي في أصلها مستندة إلى أمرين أساسيين: القدوة، والمرجعية. كلاهما يساهمان في ملء الفراغ الحاصل حاليًّا، أو بالأحرى الفراغ المملوء سبقًا بما قد لا يناسبنا. تحلّق الكل حول الناطق الرسميّ باسم كتائب القسّام مثلًا: "أبو عبيدة" وكمية التأثير البارز الذي يصنعه هذا الرجل حتى في الإسرائيليين أنفسهم الذين لا يثقون بحكوماتهم بقدر ما يثقون فيه يبرز حجم التعطّش إلى القدوة الذي يحتاجه الشباب، وأهمية القائد في التكوين الاجتماعي لكلّ أمة، في وطن يفتقر فيه الحكّام إلى أدنى مقومات القائد الحرّ، هؤلاء الذين خيّبوا آمال شعوبهم وقطعوا صلاتهم بهم، ولم يمثّلوهم في يومٍ من الأيّام. 

من جهة ثانية، فإنّ عودة الناس إلى ما قد يجيب عن أسئلتهم حول الشرّ المطلق الذي ينتهجه الاحتلال، وكمية الظلم الذي يعاني منه أصحاب الحق، وإلى آيات الجهاد والسّكينة والغزوات، وإلى قصص الصحابة والسّلف 

يشكل أيضا عودة إلى المرجعية الدينية التي تعينهم على التفكير والحياة، في زمان طغت فيه المادية البحتة على كلّ التزام دينيّ أو أخلاقيّ. القضية أعادت صلة الأمة بثقافتها وتاريخها البعيد والقريب؛ تجليات غزوة بدر الكبرى على سبيل المثال توضّح كيف يمكن للفئة القليلة بالعتاد القليل أن تنتصر إن كانت صاحبة حق على الفئة الكثيرة، "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)" آل عمران.

 وأنّ المواجهة والجهاد هما الحلّ حتّى لو ثقلت وطأة الجهاد على النفوس لمتاعبها " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)" لأنّ انتصار هذه القضية وأي قضية مهما كانت لا يأتي إلّا من خلال الطريق الوعر، المعبّد على الشوك والدماء. يقول زيجمونت باومان: "الأخلاق ليست وصفة لحياة سهلة (هادئة ناعمة)، ولن تكون الأخلاق أخلاقًا إذا كانت وصفةً لحياة سهلة." 

 من استعدّ استمدّ 

عبارات مثل "ما تعيطش يا زلمة كلنا مشاريع شهداء"، و"لو هدوا البيت أنا صامد"، و"معلش، إنا لله وإنا إليه راجعون" تلخّص سنواتٍ طويلة من الاستعداد بغية الاستمداد في الوقت اللازم، وأنّ هذه النفوس خُلّيت من كلّ رواسب الضعف والهوى قبل أن تُحلّى بمعاني الصبر والثبات. 
 
الطوفان كان اختبار أهل غزة لكلّ الحمولات الثقيلة التي ربّوا بها أنفسهم لمدة طويلة، وتبصيرًا لنا نحن إلى أنّ معارك اليوم والليلة والشهر والسنة نتاجُ إعدادٍ طويلٍ لا تأتي ثماره بين ليلة وضحاها
 

ثبات أهل غزة الذي أثار دهشة الجميع لم يأت من عدم. هؤلاء قوم اشتغلوا كثيرًا على حركاتهم وسكناتهم وأولوياتهم حتّى وصلوا إلى هذه المرحلة من القوة النفسية والتسليم المطلق، لعلمهم بأنّ الحصاد لا يأتي من غير بذل وزرع وجهاد، والنفس لا تقوى إذا ركنت طوال الوقت إلى ما يوافق هواها ويعفيها من الالتزامات، ستكون النتيجة نفوسًا هشة لن تستطيع مواصلة السير وستفشل في أوّل امتحان. 

رصيد أهل غزة الثريّ من الترويض والجهاد ظهر عند أول اختبارٍ حقيقيّ لإيمان المرء ويقينه، ذلك الاختبار الذي يعلو على كلّ الاعتبارات الأرضيّة ويمنح للغيب والحكمة الإلهية -غير المدركة بعض- حقّ السلطة والتحكّم في ردود الأفعال، عبارات مثل "ما تعيطش يا زلمة كلنا مشاريع شهداء"، و"لو هدوا البيت أنا صامد"، و"معلش، إنا لله وإنا إليه راجعون" تلخّص سنواتٍ طويلة من الاستعداد بغية الاستمداد في الوقت اللازم، وأنّ هذه النفوس خُلّيت من كلّ رواسب الضعف والهوى قبل أن تُحلّى بمعاني الصبر والثبات. ما نغفل عنه نحن أنّ التعامل مع السنن الإلهية لا يمكن أن يكون رياضيًّا، هذه ليست علوم دقيقة، ولن تحصل الإجابة في الوقت الذي نريد نحن، بل في الوقت الذي يريد هو كما بيّن ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه العطائية. 

الطوفان كان اختبار أهل غزة لكلّ الحمولات الثقيلة التي ربّوا بها أنفسهم لمدة طويلة، وتبصيرًا لنا نحن إلى أنّ معارك اليوم والليلة والشهر والسنة نتاجُ إعدادٍ طويلٍ لا تأتي ثماره بين ليلة وضحاها. وهذا الدّين لم تحفظه سوى قلة قليلةٌ ثبتت يوم بدر. 

 لا نصر بالمجان 

مقاومة.jpg

سئل الإمام الشافعي رحمه الله: "يا أبا عبد الله ، أيما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى ؟" فأجاب: "لا يمكن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكّنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة"، والتمكين هنا بمعنى النصر، وهو مقترن حتمًا بالجهاد والصبر والألم. 

والتاريخ يحدثنا بأنّ الشعوب المستعمرة دفعت من أرواحها الكثير مقابل حريتها. الجزائر التي دام احتلالها لأكثر من قرن وربع قرن دفعت في 7 سنوات من الثورة التحريرية أكثر من مليون ونصف المليون شهيد، كما سقط مئات الآلاف في بقية دول المغرب العربيّ، على غرار اليتامى والأرامل والمعطوبين، لأنّ مهر الحرية غالٍ ومكلّف، ومن أجل الأجيال القادمة تضحّي الأجيال التي سبقت، لذلك يصنف فعل التضحية ضمن أنبل الأفعال وأكثرها شرفًا في العالم، حتى أنّ رتبة الشهيد هي أسمى رتبة يمكن للمرء أن يصل إليها بعد الصديقية والنبوّة، هذا الفعل الذي ينتصر على كلّ النزاعات النفسية والأهواء الشخصية وقيود الرغبة في الحياة للصالح العام لا بدّ وأن يكون صاحبه استثنائيًّا. 

لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة، وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني! وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد."

الملاحظة ذاتها التي أوردها المثقف المشتبك الشهيد باسل الأعرج حينما قال: "لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة، وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني! وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد." ففعل الشهادة لذاته يخلق تأثيرًا يتعدّى كل الكلام والوصايا، وهو يحرّر كلّ صفات الأنانية والعجز والاتّكال داخل المرء، ليكون ثمنًا للنصر. 

دعونا نتذكّر جميعًا رغم مساوئ العجز والحرمان والقهر التي تصيبنا أنّ إخواننا في غزة على خير وحقّ ماداموا في طريق حقّ وجهاد، وأنّ هذا الطوفان المبارك مثلمَا يغرق البعض، لكنّه السبيل الوحيد لينجو الآخرون، وأن علينا أن نحتفظ بالصورتين: صورة الابتلاء، وصورة التمكين.