بنفسج

مرح باكير وأماني هشيم: ذاكرة السجن في زمن الحرية

الأربعاء 29 نوفمبر

في يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 خرجت الدفعة الأولى من أسيرات صفقة التبادل بين حركة المقاومة الإسلامية حماس وقوات الاحتلال الإسرائيلي. توجّهنا في اليوم التالي لإجراء مقابلةٍ مع عدد من أسيرات القدس المحررات. كانت النيّة هي التوجّه إلى بيت الأسيرة المحرّرة مرح باكير أولًا لإجراء المقابلة، لكن الدروب ساقتنا باتّجاه بيت أسيرةٍ أخرى في بلدة بيت حنينا شمال القدس أيضا. "بتدوري ع بيت الأسيرة، صح؟ هيّو عند الحوش ع إيدك الشمال بتنزلي الدرجات بتلاقي بوّابة كبيرة همّة ساكنين في الطابق الثاني". اهتداءً بوصفِ أحد أبناء الحيّ، صعدنا السلالم المؤديّة إلى بيت الأسيرة المقدسيّة أماني الحشيم.

في صالة استقبال الضيوف جلست لعدد من أمّهات الأسرى السابقين والنشطاء المحليين الذي تسابقوا لتهنئة الوالدةِ بحريّة ابنتها. بينما كانت هي تجري لقاءاتها الصحفيّة المتواليّة مع عدد من المحطّات التلفزيونيّة المحليّة والعالميّة في الغرفة المجاورة. يقاطع مجلسنا فجأة شقيقها الذي تطوّع لتصوير لقطاتٍ من داخل البيت بجانب لقطاتٍ متفرّقة للحضور نيابةً عن مصوّر إحدى القنوات التلفزيونيّة.

أماني الخشيم: فرحة طفولية يخفيها صمود الأسير

أماني.jpg
الأسيرة المحررة أماني خشيم ووالدتها بعد تحررها ضمن صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة والمحتل

تفرغ أماني من المقابلة لتأتي وتنسّل بين أمّها وقريبتها على الصوفا الثلاثية المقاعد بين الجموع. استغرقني بضع ثوانٍ حتى استوعبت أنَّ الفتاة التي تجلس بهذه الخفّة هي ذاتها الأسيرة أماني الحشيم. ليس فقط لأنَّ فستانها الأبيض المستوحى من الثوب الفلسطيني منحها هيئة ملائكية لا يربطها المرء بنُدوب الأسر عادةً، ولكن لأنَّ هذه الفرحة الطفولية تتنافى مع تصوّراتنا التقليدية عن صلابة الأسير وصموده، فيخالُ المرء أنّ ملامحه في الأسر هي صورته النهائية. فلم تكن تمرّ دقيقة حتى تنهض لاستقبال الضيوف أو تتجهّز للمقابلة التلفزيونيّة التالية بسرور.

في أثناء ذلك، أخذت والدتها تروي تفاصيل تسليمها بالأمس من قبل السلطات الاسرائيليّة وتقول: "ركبت في جيب الشّرطة هي عَ جهة وأبوها ع جهة، وقعد بيناتهم الجندي هيك يقول بإيديه"، في إشارةٍ إلى فردِ الجنديّ كلا كوعيهِ، للفصل بين أماني ووالدها والحيلولة دون أي تواصل حسّي بينهما. انتظرتُ إلى أن انتهت من مقابلتها التلفزيونيّة الأخيرة، هنّأتهُا بالحرّية ثم باشرت طرح الأسئلة.

عرفنا بأحداث طوفان الأقصى صبيحة يوم السابع من أكتوبر عبر المذياع وعرفنا بشأن أسر عدد من الجنود على يد المقاومة، فاستنَتجنا على الفور أنه ستكون هناك صفقةٌ تبادلٍ قريبة. لم نعرف بشأنِ الأحداث التي تلت الخبر فقد قطعت إدارة السجن الكهرباء عنّا طيلة يومين كاملين بعدها ثم سحبت كل الأجهزة الكهربائية حتّى يوم الإفراج عنّا.

- هنيئًا لكِ ولجميع الأسيرات والأسرى بالحريّة والعقبى لمن تبقّوا. ما رأيك بأن نبدأ من لحظاتِ اعتقالكِ الأولى عام 2016؟

- اعتُقلت في 13 ديسمبر/ كانون الثاني 2016. وجّه لي الاحتلال تهمة محاولة دهس جنود على معبر قلنديا، وفي إثر الاتّهام تمّت محاكمتي انتهاءً بالحكم الجائر ضدّي بالسجنِ الفعلي مدّة عشر سنوات قضيت منها سبعا بالإضافة لغرامة ماليّة، وها أنا اليوم بين عائلتي وأهلي.

-بما أننا نتحدّث عن البدايات، ما رأيك أن تخبرينا قليلاً عن أيامك الأولى في الاعتقال؟

- لا تخلو الأيام الأولى من الصدمة بالطبع. صدمة الاعتقال. الأسيرات يُنتزعن من حياتهنّ.. من عائلاتهنّ من مدارسهنّ ومن جامعاتهنّ. بالنسبة لي فقد سيطر على تفكيري مصيرُ عائلتي وأبنائي. ولولا دعم وتوجيه الأسيرات القدامى لما تمكّنت من اجتياز الأيام الأولى حيث استقبلتني عميدة الأسيرات آنذاك الأسيرة المحررة لينا الجربوني من الداخل المحتل. احتوتني لينا في غرفتها وأنا أتقدّم لها من خلالكم بالشكر لكل نصيحةٍ وجهّتها لي حيث لخّصت لي خبرتها في الأسر طوال خمسة عشر عاما قضتها في الزنازين، ما ساعدني على فهم بعض الأمور في المعتقل. إضافة إلى متابعة الأسرى وممثّليهم ونادي الأسير وهيئة شؤون الأسرى معنا.

أثناء حديثنا، أشارت أماني إلى عام 2018 بوصفه نقطة تحوّل في التصعيد التراكميّ ضد الأسيرات وقالت: "بتعرفي في 2018 نقلونا كلّياتنا لسجن الدّامون بعد ما كنّا مفرّقين". خلال تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2018، ظهرت توصيات لجنةٍ شكّلها وزير الأمن الداخلي غلعاد إردان مع ما يسمّى "بالشؤون الاستخبارية" بحقّ الأسرى، وضيّقت الخناق عليهم عبر تقليص المواد الغذائية في مقصف السجن "الكانتينا"، وفرض قيود جديدة على الكتب التي يتم إدخالها في أثناء الزيارات العائلية وعلى التعليم داخل السجون، بالإضافة إلى حملة اقتحامات وتنكيل بالأسرى في مختلف السجون مع أوامر بإزالة الفصل السياسي بين الأسرى بهدف منع تجمّع الأسرى من ذات الفصيل

ركبنا في سيارة الشرطة الإسرائيلية وتوّسطنا ضابط شرطة منع أي تواصل لفظي أو جسدي بيني وبينه.
 
بعد وصولنا إلى البيت ومعانقة الأهل بقينا نتحدث لساعات متأخرةٍ من الليل. سألتني أمّي عن موعد نومي فأخبرتها أنني أخشى النوم لئلا يكونَ كل ما يجري معي حلمًا جميلًا وانتهى.
 
أفقت في صبيحة اليوم التالي في بيت عائلتي بالفعل. لكنّ ساعتي البيولوجيّة ظلّت مضبوطةً على عقارب السجن. فقد أفقت في الموعد المعتاد في الأسر وقفزت من السرير في لمح البصر استعدادًا للعدّ الصباحي!

-صفي لنا حياتكِ داخل الأسر. كيف واجهتنُّ التصعيدات بدءًا من أحداث نفق جلبوع وصولًا إلى طوفان الأقصى؟

- بعد مطالباتٍ واحتجاجاتٍ من الأسيرات في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 جُمعت الأسيرات من قسم 61 و"هشارون" في قسم كبير واحد خاص بهنّ. السجن هو ساحة نضالٍ من نوع آخر، ومما تعلّمته أن نضال الأسير لا يتوقف عند لحظة اعتقاله، فأنتِ في مواجهةٍ دائمةٍ مع السجّان وعليكِ أن تكوني في حالة تأهّب طيلة الوقت. ترتفع وتيرةُ هذه المواجهاتِ مع تصاعُد الأحداث السياسية في الخارج بالطبع. فبعد عمليّة نفق الحرية ارتفعت وتيرة التفتيشات وطبيعتها وحدّتها بالرغم من انتشار كاميرات المراقبة في كل مكان.

عرفنا بأحداث طوفان الأقصى صبيحة يوم السابع من أكتوبر عبر المذياع وعرفنا بشأن أسر عدد من الجنود على يد المقاومة، فاستنَتجنا على الفور أنه ستكون هناك صفقةٌ تبادلٍ قريبة. لم نعرف بشأنِ الأحداث التي تلت الخبر فقد قطعت إدارة السجن الكهرباء عنّا طيلة يومين كاملين بعدها ثم سحبت كل الأجهزة الكهربائية حتّى يوم الإفراج عنّا. أما في فترة طوفان الأقصى فقد وصل التصعيد إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. حيثُ رُشّشنا بغاز الفلفل في أكثر من مناسبة بالإضافة للاعتداءِ علينا بالضرب والتنكيل. وفي اليوم الأول من الحرب اقتيدت ممثلة الأسيرات مرح باكير إلى العزل الانفرادي.

-هلا أخبرتنا عن لحظاتك الأول في الحريّة؟ وكيف استقبلتِ الخبر؟

-لم نكن نعرف أننا خرجنا ضمن صفقة تبادل. وعندما ظهر الضبّاط على عتبة غرفتي في الصباح اقتادوني بسرعةٍ شعرت معها أنني لا أخطو على الأرض أصلا. شعرت بالذعر وسألتهم على الفور "إلى أين تقتادوني، فأجابوا إلى البيت". من فرط الدهشة وعدم التصديق سألتهم "أي بيت؟". ثم بدأت أستنتج بالتدريج أنني سأخرج في صفقة تبادل. استقبلني والدي في مقرّ المسكوبية في القدس، ولم أتمكّن حتى من عناقه أو الحديث معه.

ركبنا في سيارة الشرطة الإسرائيلية وتوّسطنا ضابط شرطة منع أي تواصل لفظي أو جسدي بيني وبينه. بعد وصولنا إلى البيت ومعانقة الأهل بقينا نتحدث لساعات متأخرةٍ من الليل. سألتني أمّي عن موعد نومي فأخبرتها أنني أخشى النوم لئلا يكونَ كل ما يجري معي حلمًا جميلًا وانتهى. أفقت في صبيحة اليوم التالي في بيت عائلتي بالفعل. لكنّ ساعتي البيولوجيّة ظلّت مضبوطةً على عقارب السجن. فقد أفقت في الموعد المعتاد في الأسر وقفزت من السرير في لمح البصر استعدادًا للعدّ الصباحي!

مرح باكير: الصغيرة التي نضجت في السجن 

مرح2.jpg
ممثلة الأسيرات المقدسية مرح باكير تعانق والدتها بعد تحررها 

قاطعنا في ما بعد أحد أشقّاء أماني يطلب منها التجهّز لمقابلةٍ تلفزيونيةٍ لإحدى المحطّات. ثمّ توجّهنا إلى بيت الأسيرةِ مرح باكير. استقبلتنا والدتها عند الباب وأخبرتني أنها وعدت ابنتها بأنّها لن تستقبل المزيد من الصحافيين، لكنّ بإمكاني الدخول لتهنئة مرح بخروجها سالمةً من الأسر، ولم أمانع. هنّأتها ووالدتها بالسلامة وجلسنا نتحدّث بشكل عفوي بما أنني وعدتّها بأنني لن أجري المقابلة لكنني سأسجّل حوارنا صوتيًا.

بعد 14 رصاصةً تلقّتها مرح على طول ذراعها مكثت 22 يومًا في المستشفى أُجريت خلالها عمليتان جراحيتان، ثم سُرّحت دون إكمال العلاج وبعد التنقّل بين سجونِ عسقلان والرملة. نُقلت أخيرًا إلى سجن الشارون ومنه إلى سجن الدّامون. تدخلُ مرح في صلب الموضوع على الفور.

بالطبع الإنسان ينضج ويتطوّر بطبيعة الحال من خلال تجربة مثل الأسر. قرأت الكثير من الكتب والمقالات طوال فترة الأسر؛ من مجلة الدراسات الفلسطينية إلى كتب غسان كنفاني. قرأت كل ما كنت أضع يدي عليه. وقد ساهم الأمر في صقل شخصيّتي وتطوّرها. ثمّ رُشحت من قبل الأسيرات لكي أكون الممثلة عنهن أمام مصلحة السجون واليوم أريدُ أن أتخصص في المحاماة للدفاع عن أبناء شعبي.

- كيف تلقّيتِ خبر طوفان الأقصى وعن إجراءات العزل بشكل عام بما أنّك قضيتِ طوال الفترة الماضية في العزل الانفرادي؟

- سمعتُ بشأن طوفان الأقصى من المذياع. حالي حال بقيّة الأسيرات، لكنَّني بحلول السابعةِ مساء كنت في كيشون (مركز تحقيق الجلمة). عندما خرجت لم أخرج مثل البقيّة من قسم الأسيرات في الدامون وإنمّا من العزل الانفرادي في سجن الجلمة ثم إلى البيت فورًا. قضيت 48 يومًا في العزل الانفرادي ولم أعرف بشأن وجود صفقة تبادل ولا بشأن الحرب إلا لحظة الخروج ولهذا السبب خرجت إلى البيت بثياب الصلاة. ثم أخبروني فيما بعد أنني بدوتُ مثل نساء غزّة (تشير ضاحكة).

- كيف تمّت إجراءات خروجك، وكيف أخبروكِ بأنَّك الآن على موعدٍ مع الحريّة؟

- حسنًا بعد أن علمت بأنني سأخرج في صفقة تبادل جاء الضابط وأخذني إلى لجنةٍ تتألف من أربعةٍ من ضبّاط الشاباك، وأخبروني بأنَّ ملفّ قضيّتي قد أُغلق وبأنني حصلت على عفو، وبأنَّ عودتي إلى هنا ستكون مرهونةً بملف جديد. وهذا ما لم يحدث في صفقة وفاء الأحرار في السابق حيث أُعيد اعتقال عدد ممن أفرج عنهم بسبب تلاعب إسرائيل بهذا البند. لم أصدق الأمر في البداية لكنّه كان تصديقًا لكلامي لبقية الأسيرات في السابق بأنني أريد أن أخرج في صفقة تبادل وقد خرجنا بالفعل.

- كل صورك المتداولة في الإنترنت هي صورة مرح الطفلة. واليوم أنتِ شابّة ناضجة ليس من ناحية السنّ وإنما من طريقة الكلام أيضا يبدو أنّك قطعت شوطًا في النضج.

-بالطبع الإنسان ينضج ويتطوّر بطبيعة الحال من خلال تجربة مثل الأسر. قرأت الكثير من الكتب والمقالات طوال فترة الأسر؛ من مجلة الدراسات الفلسطينية إلى كتب غسان كنفاني. قرأت كل ما كنت أضع يدي عليه. وقد ساهم الأمر في صقل شخصيّتي وتطوّرها. ثمّ رُشحت من قبل الأسيرات لكي أكون الممثلة عنهن أمام مصلحة السجون واليوم أريدُ أن أتخصص في المحاماة للدفاع عن أبناء شعبي.