بنفسج

بالصور: غزة 70 يومًا من الحــــــــــــــــــــــــــــــــــرب

السبت 16 ديسمبر

على نحو سبعين يومًا من الحرب لم تقتصر خسارات غزة على الألم البالغ الذي سببه الاحتلال، إذ أن العدو الحاقد على المدينة الطاهرة يصرّ على إيذاء كل بقعة وزاوية فيها، فيطال أذاه البشر الحجر وكل ما طالته آلته العسكرية الأقوى في العالم.تعرضت البنية التحتية لأضرار جسيمة جدًا، الهدف منها جليّ، يتلخّص في حقدٍ أسود وإصرار على جعل المدينة غير صالحة للحياة، وبالتالي إجبار أهلها على الهجرة، نظرًا لاستحالة تسيير الحياة اليومية وسط مدينةٍ غدت تعجّ بالأنقاض والركام والدمار الهائل الذي لم يُبقِ حجرًا على حجر.

وقد بدأ الاحتلال يشن حربًا ودمارًا أشبه بالأرض المحروقة والإبادة الجماعية، لأنه يعلم أن غزة هي حاضنة شعبية للمقاومة، بل إنها تحميها وتدعمها وتساندها، وهي تستمر بها، والاحتلال يريد من ذلك الدمار أن يدفع غزة وأهلها الأثمان، ثمن هذه الحاضنة، بل والتخلص منها، فبدأ بتدمير البنية التحتية، الشوارع والبيوت والمستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد وشبكات الصرف، والجامعات والمكتبات، فيا أهل غزة ارحلوا، لم يتبق لكم مكان تجلسون فيه، لا مأوى ولا علاج، فانزحوا وهاجروا ولا تعودوا.

الحرب على غزة: سياسة الأرض المحروقة

مسجد الحساينة.jpg
مسجد الحساينة، من أشهر المعالم الحديثة في غزة، بناه أهل الخير 2017 بإشراف وزارة الأوقاف

سياسة الأرض المحروقة التي لا تذر بشرًا ولا حجر، هذا كان مراد المحتل منذ اليوم الأول من الحرب، إبادة جماعية أو تهجير قسري، وهو يستمر حتى الآن من خلال هجوم عسكري ثقيل، بتدمير كل شيء في غزة، ولا هدف واضح محقق أمامه، وربما هذا ما يجعل الأمور أصعب! فهو لا يزال يهاجم بؤرة مقاومة غير مرئية ولا معلومة المكان، لا يعرف منها سوى هويتها الرمزية وليست البصرية، وما السبيل إلى ضرب بؤرة تشبه العين السحرية التي تضرب وتختفي...
من الصعب تقدير حجم الخسائر، خاصةّ في ظلّ استمرار الحرب والقصف، ما يعني أيضًا صعوبة في تقدير الكلفة اللازمة لإعادة الإعمار بعد الحرب، لكنّ الدمار بالتأكيد يفوق أي دمار نشب عن الحروب السابقة في المدينة المستهدفة على مدار سنوات من العدو الصهيوني. والأماكن المتضررة متنوعةٌ وتشمل كل مناحي الحياة مِن طرق أساسية إلى مساكن ومؤسسات حكومية ومدارس ومستشفيات.

وإن تكلّمنا بلغة الأرقام لتقريب الصورة إلى الذهن فالضرر طالَ حوالي خمسين بالمئة من المساكن، ٤٠ ألف وحدة سكنية هُدِّمت بالكامل بعد إلقاء ٣٢ ألف طن من المتفجرات و١٣ ألف قنبلة، أما المدارس فقد دُمر منها حوالي ٢٥٥ مدرسة، والمساجد وصلَها الأذى 260 مسجدًا، إضافة لثلاثة كنائس متضررة و30 مستشفى، وإثر كل هذا الدمار بلغ عدد المشرّدين حوالي مليون ونصف.

تدمير ممنهج للمساجد 

المسجد العمري-.jpg
ترجع التسمية إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الأكبر والأقدم في غزة

نستعرضُ هنا بعض الأمثلة بالمسمّيات عن أبرز المناطق المتضررة في مدينة غزة ونبدأ بمسجديها: العمري والحساينة؛ فالاحتلال دمّرَ المسجد العمري الأقدم في غزة ومسجد الحساينة الذي يُعدّ من أحدث مساجدها، ليُبرهن على أن حقده منصبّ على ماضي وحاضر المدينة وسكانها المسلمين سواء في تاريخهم الذي يخافه، أو حاضرهم الذي يخشاه ومستقبلهم الذي يحاول إبادته، لعلمه أن نهايته ستكون حاضرةً فيه لا محالة.

*المسجد العمري الكبير: يقع في حي الدرج في البلدة القديمة وسط غزة، وهو الأكبر والأقدم في غزة، سُمّي نسبةً لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصفه ابن بطوطة بالمسجد الجميل ليُقدِم أعداء الدين والجمال على تدميره اليوم حيث استهدفته قوات الجو وحطمت مئذنته التي يبلغ عمرها ١٤٠٠ عامًا، ولم يكتفوا بذلك فكرروا قصفه مرة أخرى.

تدمير المؤسسات التعليمية: المدارس والجامعات  

الجامعة الإسلامية.jpg
دمر الاحتلال الإسرائيلي مباني وكليات الجامعة الإسلامية، وحولها إلى ركام 

الجامعة الإسلامية في غزة، من أشهر وأعرق الجامعات في فلسطين، دُمرت مباني المنشأة التعليمية بشكل كلي ولم يعد دخولها ممكنًا بفعل الركام المُكوَّم في للطرق المحيطة، حيث دُمر مبنى تكنولوجيا المعلومات ومبنى عمادة خدمة المجتمع والتعليم المستمر ومبنى كلية العلوم.

استهداف المساجد ينمّ عن حقدٍ دفين ضد المسلمين ويأتي استهداف الجامعات والمدارس لينمّ عن منهجية مدروسة، تبغي حرمان أهالي غزة من حق التعليم والمضي قدمًا في الحياة لخوفٍ عميق يُضمره العدو مِن نوابغهم وكذلك لتضييق فرص الحياة والعمل، ما يعني إجبارهم إما على الهجرة أو على عيش حياة ناقصة في سبيل التمسك بمدينتهم الحبيبة وكلا الخيارين مُرّ وفيه ضرر كبير على الأجيال.

تدمير البنية التحتية: شارع صلاح الدين نموذجًا 

شارع صلاح الدين.jpg
يُعد شارع صلاح الدين من أهم الشوارع في القطاع، إذ يربط شمال غزة بجنوبها على امتداد القطاع

 الطريق السريع الرئيس في القطاع يبلغ طوله ٤٥ كيلومترًا، يمتد على طول القطاع من معبر رفح في الجنوب حتى بيت حانون في الشمال، يُقال بأن تسميته تُنسب للناصر صلاح الدين محرر القدس من الصليبين، ولعلّ هذا يزيد العدو حقدًا على هذا الشارع، ويقال أيضًا بأن الشارع أقدم من ذلك بكثير إلى حد أنه قد يكون أقدم شارع في العالم وقد مرت منه عشرات الجيوش الهادفة للسيطرة على بلاد الشام، وكلّ هذه الجيوش رحلت ليبقى الشارع الذي حاول العدو الصهيوني السيطرة عليه أو إيهام الشارع الصهيوني أنه سيطر عليه لكسبهم إلى صفه رغم أنه لم يفعل.

حرب المستشفيات: مستشفى الشفاء نموذجًا 

مستشفى الشفاء.jpg
شن الاحتلال الغاشم حربًا ضد المستشفيات والطواقم الطبية، في خرق واضح لاتفاقية جينف وكل المعاهدات الدولية

أي متابع لأخبار غزة منذ بداية الحروب عليها يحفظ اسم هذه المستشفى لكثرة ما تتعرض له من أذيّة في كل حرب، ولأهميتها بالنسبة للغزاويين، لأنه المكان الآمن الذي يلجؤون إليه كلما اندلعَت الحرب.أُسس في عهد الانتداب البريطاني عام ١٩٤٦ وهو أكبر مؤسسة صحية في غزة وفيه الكثير من الأقسام الطبية والعيادات التخصصية، ما يعني بوضوح مدى اعتماد الأهالي عليه، ففيه يعمل حوالي ربع عدد العاملين في مستشفيات القطاع، كما أنه يؤوي الصحفيين والإعلاميين ويسهّل عليهم نقل الأحداث ومعرفة عدد الجرحى والشهداء، ويؤوي الكثير من الناس كذلك، فقد نزح إليه حوالي ٣٥ ألف مواطن.

ازدادت طاقته الاستيعابية _مرغمًا_ خلال الحرب فبلغت ١٦٤٪ بسبب ما يَرده من أعداد إصابات مهولة، ما أدى إلى تفشّي وضعٍ كارثيٍّ فيه ومعاناته لنقص الدواء والوقود وإرهاق وانهيار الطواقم الطبية إزاء أعداد الإصابات وهولِها الذي عرّضهم للكثير من الشّدات النفسية، مع الإشارة إلى أن معظمهم صُدمَ بوصول أهله شهداء ومصابين وجرحى.تعرض المستشفى دائمًا للاستهداف في كل حروب غزة بما فيها هذه الحرب، وقد طال أحد الاستهدافات قسم الحضانة. أُخلي منه مئات المرضى والنازحين سيرًا على الأقدام في ١٨ نوفمبر، وحدثت على بابه مجازر استُهدفت فيها سيارات الإسعاف.

مرفأ الصيادين لم يسلم من الاحتلال 

مرفأ الصيادين.jpg
استهدف الاحتلال الإسرائيلي مرفأ الصيادين في غزة، وتقدر تكلفة إعادة تشغيله ملايين الدولارات

 رغم أن العمل في الصيد كان مصدرًا وفيرًا للرزق ويؤمن فرص عمل لحوالي ١٠٠ ألف شخص في غزة إلا أن عدد المستفيدين منه قلّ مع السنوات بفعل الحروب المتكررة وبسبب تضييق العدو على الصيادين، إذ لا يسمح لهم بالإبحار سوى لستة أميال ما يحرمهم من تنوّع الأسماك التي يصطادونها، ومع الحرب الأخيرة سيحتاج هذا القطاع إلى جهود كبيرة لترميمه مع صعوبة تدارك خسائره المُقدَّرة بملايين الدولارات، فقد استُهدفت مراكب الصيادين مباشرة عدا عن كونهم مُعرَّضين للاعتقال وإطلاق النار حتى خارج أوقات الحرب. كما تعرّض للقصف بالقنابل الفوسفورية ودُمّرت كذلك المنازل المحيطة بالبحر.

وكما لحظنا فإن شرُّ العدو الحاقد يتعدّى قتله الأعمى الذي يمثّل بالنساء والأطفال والشيوخ، ليكونَ قتلًا واعيًا ممنهجًا ومقصودًا لكلّ نواحي الحياة في غزة، إنه يقتل غزة بحدّ ذاتها، يعاملها على أنها بكلّ ما فيها كائنٌ أسطوري أعجزَه صموده، فقرّر قتلَه عبر استهداف كلّ أعضائه بشرًا كانت أو حجرًا، أشخاصًا أو حيوانات أو مَبانيَ، لكنّ غزة الصامدة والتي ثبتت في كل الحروب ستنهضُ له من بين الركام لتكونَ الشبحَ الذي يطارده في كوابيسه ويقظته، فلولا أنّه يعرفُ قدرتها وقوتها لما تغوَّل في هجومه على كلّ مرافقها، ولنا في نصر الله إيمانٌ لن يتزعزع.