بنفسج

يوميات النزوج والحرب: "اليوم بمر عن سنة" ... شهادات حيّة

الثلاثاء 19 ديسمبر

النزوح والحرب في غزة
النزوح والحرب في غزة

أجل.. إنها الحرب، الوحش القاتل، السارق الفاشي، العجوز البشعة التي لم يحب أحدٌ منَا ذكر اسمها أو ملامحها. ورغم ذلك إلا أنها مازالت تلقي بوحشيتها وهمجيتها على مدينة غزة.73 يومًا وقائمة المعاناة تتسع وتطول وتزيد وجعًا وقهرًا، فلم يبقَ شيءٌ على حاله، فكل ما في هذه المدينة أصبح باهتًا وحزينًا.

كان الصباحُ مختلفًا على فتيات المدينة الحنونة، فما إن تشرق الشمس حتى تبدأ فعاليات اليوم الجديد، تتجهزُ فناجين القهوة الأنيقة مع قطعة الشوكلا التي لا تحلو إلا بالتقاط ماْئة صورة لها بحجة "خليها للذكرى". كان اليوم في غزة ممتلىء بالتفاصيل التي لا تنتهي، شجار الأخوات على الكنزة الصوفية في اليوم الماطر، مشاكسة الصغار وهم يتسابقون يوم الخميس أمام بيت جدهم، حيرةُ الأمهات في اختيار طبخة اليوم، لقاءات الأصدقاء بعد انتهاء المحاضرة الطويلة.

الحرب.. العجوز البشعة

يوميات النزوح والحرب في غزة

هذه التفاصيل التي تبدو لوهلة كأنها شيءٌ عادي يعيشه الإنسان كل يوم، إلا أنَ كلَ هذه الأشياء أصبحت الآن أمنية صعبة المنال. ففنجان القهوة أصبح شيئًا من الرفاهية المفقودة، وقطعة الشوكولا لو رأيتها فكن على يقين أنها "سراب"، وأما عن الكنزة الصوفية فلقد أصبحت الأخوات يتبادلنها يوميًا فيما بينهن عن طيب خاطر، وبالنسبة للصديق الذي كان يشارك رفاقه طريق العودة من الجامعة، فلقد أصبح الآن برواية الفلسطيني الغزي "مسك فايح".

كيف تعيش أمهاتنا وأخواتنا وطفلاتنا المدللات؟ كيف يبدأ اليوم وكيف يتنهي؟ سألتُ هذا السؤال وأنا أرى كل شيء أصبح مستحيلًا، لتجيبني إحدى النازحات ضاحكةً: "يوم عن يوم تختلف أولويات الحياة لدينا، قبل شهر مثلًا كنا نطمحُ بأي شيء من المعلبات لنأكله مع الخبز، اليوم أصبح طموحنا الحصول على الدقيق لصنع الخبز. بهذا الشكل يبدأ يومنا في غزة وبنفس الشكل ينتهي أيضًا".

من نزوح إلى نزوح: "نزحنا 3 مرات"

الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة

 نازحةٌ أخرى تسرد لي شيئًا من تفاصيل حياتها التي انقلبت بين ليلة وضحاها، قائلةً: " نزحنا 3 مرات، المرة الأولى من بيت حانون في الشمال إلى مشفى ناصر بخانيونس، ثم استأجرنا بيتًا في عبسان وعشنا فيه لمدة 3 أيام، ثم أُجبرنا على النزوح إلى مدينة رفح التي لم نزرها في حياتنا ولا نعرف فيها أحدًا. لم نجد أي مكان فارغ لا بيت ولا مستشفى ولا مسجد، فاضطررنا إلى نصب خيمة بحي السعودي والجلوس هناك أنا و4 إخوة مع أمي المريضة".

ننتظر الصباح لنرى: هل بقينا على قيد الحياة؟

الإبادة الجماعية في قطاع غزة

وأمَا عن تنظيم خطة محددة لتسيير اليوم، تجيبني إحدى النازحات: "لا يوجد شيء اسمه حياة يومية في قاموس الغزي، نحن ننتظر الصباح، وإن كنا على قيد الحياة نخطط ونتقاسم المهمات، أذهب مع أخي إلى السوق، ونحن نعرف أننا لن نجد شيئًا لنشتريه فكل ما هو موجود سعره أضعاف مضاعفة، نشتري المخللات على الأقل ونرجع إلى الخيمة".

نازحةٌ أخرى تُلخصُ يومها كله في "رحلة البحث عن الطحين، تقول النازحة العشرينية لـ"بنفسج": "اليوم كله يتلخص برحلة البحث عن الطين أو "الذهب الأبيض" فسعره الآن تجاوز الـ 100 دولار ومن في غزة سيملك 100 دولار يصرفها أسبوعيًا لشراء الطحين لعائلة تتجاوز الـ 20 شخص؟

لم تتوقف النازحات عن سرد التفاصيل التي لو قيلتْ بأيام غيرهذه لظننا أنها قصة من فيلم حزين، فإحدى النازحات اختارتْ أن تشرح لي عن أقسى المشاعر التي عاشتها، قائلةً: "تعرَفنا على سيدة طيبة ونحن نتجول في السوق في مدينة رفح، وعندما شرحنا لها حالنا، قررتْ أن تساعدنا أنا وزوجات أخي بأن نذهب إليها في وقت محدد أسبوعيًا من أجل الاستحمام، لكن المشكلة أن بيتها بعيد جدًا ويحتاج إلى مواصلات ونحن لا نملك المال الكافي لذلك".

هل يمكننا الاستحمام عندكم؟

المجازر اليومية للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة

لم تختلف تفاصيل الحياة من نازحة لأخرى، فما بين رحلة البحث عن الطعام أو أي شيء يشبه الطعام، تجيبني نازحة أخرى" يومي كله يتمثل بأن تبقى عائلتي بخيروعلى قيد الحياة أولًا، ثم نفكر بأي شيء يمكن أن نحصل عليه لنأكله ولو كان حبة برتقالة".

ربما كان السؤال صعبًا، فما معنى الروتين اليومي في قاموس نازح لا يعرف إن كان سيبقى على قيد الحياة خلال الدقيقة التالية، فلم تخفِ إحدى النازحات حشرجة صوتها وهي تجيبني باستنكار، روتين يومي، كيف يعني؟لقد نسيت كل فتيات المدينة المدللات معنى الروتين أو الحياة اليومية، فالكلّ هنا يستيقظ يبحث عن أهله إن كانوا على قيد الحياة أم لا، وبهذا المقياس يتابع الجميع يومه كما يُفرض عليه، فتُقسَم المهمات إمَا بالبحث عن طعام، أو حطب، أومهمة البحث عن المفقودين الذين غابت خُطاهم ولا يعُرف إن كانوا أحياءً يُرزقون أو أصبحوا الآن "مسك فايح".