بنفسج

إنجازات 2023: برائحة الحرب ومحاولة النجاة

الجمعة 29 ديسمبر

الثامنة صباحًا، ومازالت الستائر منسدلة، الحقيقة أنَّ كلَّ شيءٍ كان ناعسًا مثلي، ولم يفلح بإيقاظي سوى إشعارٍ عبر هاتفي ينذرني باقتراب موعد تسليم الورقة البحثية. لم أصدق سرعة الأيام بهذا الشكل المخيف. 30 ديسمبر! يا إلهي! هل حقًّا وصلنا لنهاية العام؟ لم أشعر بهذه الحقيقة إلَّا عندما رأيتُ جارتي الروسية تلوِّحُ لي وبيدها شجرة الميلاد وصوتُها بلكنةٍ حزينة يسألني عن غزة.

غزة؟! هذه المدينة التي عاشتْ أحداثًا يُكتبُ بها تاريخٌ كامل، قافلةٌ تجاوزت ال20 ألف شهيد، وبيوتٌ أصبحتْ بذكرياتها ودفئها ومشاعرها أثرًا بعد عين. هذه غزة مدينة الحب والحرب، سيدة التناقضات، عنقاء زمانها التي لم تعرفْ في قاموسها إلَّا معنى العزة والصمود.82 يومًا، سيكون عمر الحرب بختام هذا العام، أي ما يقارب الثلاثة شهور وكلُّ ملامح الحياةِ في غزة أصبحتْ في زمن الماضي الجميل، الذكريات والطموح والإنجازات التي حققها كلُّ غزِّي خلال هذا العام.

ما هو أكبر إنجاز حققته هذا العام؟!

إنجاز 1.jpg

اعتاد الغزيون نهاية كلِّ عام أن يدوِّنوا إنجازاتهم التي حققوها خلال العام المنصرم، يشاركون نجاحهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتباهون بما وصلوا إليه، يستقبلون المُباركات على عزيمتهم وإبداعهم رغم كلُّ الصعوبات. "درجةٌ علمية، جائزةٌ قيمة، افتتاح مشروعٍ فريد، فرصة عمل في شركةٍ مرموقة، تخرُّج من الكلية، اجتياز سنة دراسية ثقيلة، زواجٌ من رفيقٍ حنون، سماعُ كلمة ماما للمرة الأولى". كلُّها إنجازاتٌ تستحق أن يجلسَ صاحبُها متباهيًا بتحقيقها، آخذًا العهد على نفسه أن يحقق نجاحاتٍ أكبر ضمن خطة العام الجديد.

تُحاورُ "بنفسج" مجموعةً من الغزيين الذين نقشوا خطة هذا العام بشغف وحماس من أجل تحقيقها والاحتفال بإنجازها في نهاية العام.المعلمة ولاء، والتي حصلتْ على فرصة عمل في إحدى مدارس الأونروا، بعد اجتيازها امتحانًا صعبًا، تحدِّثني عن الإنجاز الذي ستحتفل به في نهاية العام:"لن أكتب أنَّي حصلت على الوظيفة التي سعيتُ لأجلها على مدار خمس سنوات، سأكتبُ في السيرة الذاتي أنّي أُجيد صناعة الخبز على الطابون، وأنّ لي طاقة تحمُّلٍ كبيرة لأصطف طابورًا فيه أكثر من مئة شخص لاستلام جاكيتٍ شتوي لطفلي. سأكتبُ أنَّي نجحتُ في حماية صغيري عندما كانت القذائف تسقط علينا، وكانت فرصةُ النجاة وقتئذٍ مستحيلة".

لله أحلامنا المؤجلة 

إنجازات في غزة.jpg

الصحفي عبد الحكيم رياش، المصور الجهبذ الذي اشترك في عدة مسابقاتٍ دولية، وكان أمام فرصٍ كبيرة لتحقيقها خلال هذه الشهور، يُلخِّص كل إنجازاته قائلًا:"هذا العام يتملكني الخوف من أن أفتح موقع اللينكدان، وأرى إنجازات الأصحاب والزملاء من مختلف الدول، بينما كان أكبر إنجازاتي خلال هذه الشهور هو أن أبقى حيًّا.. لله أحلامُنا المؤجلة".

الطبيبة الناشطة هيا حجازي، والتي عُرفتْ بنشاطها ونجاحها الباهر خاصةً في تقديم الاستشارات في مجال طب النساء والتوليد. تروي لي إنجازاتِها في نهاية هذا العام، قائلةً: "جهزتُ نفسي للسفر إلى مصر من أجل تلقي تدريبًا مع نخبة من الأطباء في مجال المناظير، خططتُ لذلك كثيرًا وكنتُ سعيدةً بهذه الخطوة التي جاءت بعد تعبٍ كبير. كان حلمي أن أسجل هذا الإنجاز في نهاية العام وأن أستقبل عامًأ جديدًا بنجاحٍ مميز وتجربة سفرٍ لطيفة. الآن أصبح حلمي الأكبر أن تتوقف الحرب، وأكبر إنجازٍ أختمُ به العام أنّي خرجتُ من بيتي سليمةً دون إصابة".

محبة السفر.jpg

الناشطة بسمة، صاحبة التفاصيل الدقيقة، والذوق الرفيع، كانت تملك شغفًا لطيفًا في تنظيم الجلسات الدافئة وترتيب بيتها بشكلٍ جميل، وإعطاء النصائح للسيدات من أجل بيتٍ دافىء ومريح. تجيبني بسمة عن سؤال إنجازاتها خلال هذا العام، باستنكارٍ حزين:"أيامٌ معدودة وينتهي هذا العام، الفرق أنَّي لن أجهز قائمةً طويلة لأهداف العام الجديد، لن أجهزَ مخططات أو طموحات. الآن طموحي الوحيد للعام القادم ولكلِّ الأعوام أن أبقى على قيد الحياة فقط".

إنجازات يعرفها القاموس الغزيّ فقط 

إنجازات يفتخر بها أهل غزة في الحرب

قصصٌ كثيرة وإنجازاتٌ وُضِعَ اعتبُارها في قاموس الغزي فقط، فأن تبقى على قيد الحياة هو إنجازٌ يستحق الاحتفاء به. تجيبني إحدى النازحات ضاحكةً من وجع السؤال: "حققتُ إنجازاتٍ كثيرة، أصبحتُ أعرف مدى قرب الصاروخ، وعلى أيِّ مكانٍ قد نزل، أفرِّق بين صوت المدفعية والدبابة. أخمِّن صوابًا في كثيرٍ من الأحيان مدى اقتراب الدبابات من المدرسة التي نزحتُ إليها. أليس هذه إنجازات أيضًا، أن تعرف الطريقة التي ستموتُ بها بعد قليل؟!".

نازحةٌ أخرى، فقدتْ عائلتها جرَّاء غارةٍ صهيونية على شارع الجلاء في أول أيام الحرب، تقول لي: "أكبرُ إنجازٍ لهذا العام، أن قدمي ابنة أختي الصغيرة لم تُبتَر رغم تحذير الأطباء لنا بخطورة الانتظار. لقد أرسل اللهُ لنا معجزةً لتُسافر، وتخضع لعملياتٍ كثيرة من أجل إنقاذ أقدامها التي لم تخطُ بها خطواتها الأولى بعد".

أمنياتٌ بسيطة، أكبرها أن تتوقف الحرب وأبسطها أن نشربَ كأس قهوة بمياه نظيفة. هل لهذا الحد تحولتْ أبجديات الحياة إلى مفاهيم صعبة المنال أمام أحلام الغزي الذي فُتحتْ جراحه منذ أكثر من 75 عامًا ولم تندمل بعد؟ّ