بنفسج

حرب المغترب حربان: قٌلن في زمن الحرب الثقيل

الجمعة 12 يناير

انتظرتُ طويلًا لآخذ نفَس الشجاعة لأبدأ حواري مع صديقات مغتربات، نتحدث عن التفاصيل، نبكي معًا، نواسي بعضنا، نستذكر وجعًا طويلًا وحزنًا صاخبًا. هذه هي الغربة، ويا ويل الفلسطيني المغترب من قسوة غربته في هذه الأيام. فالحقيقة التي لا تغيب عن بالي هنا، أنّي لم أدرك المثل الذي سمعته من جدتي، وهي تبكي على باب بيت العائلة الكبير وتودّعني: "ديري بالك يا ستي الغربة مُرّة". مرّت كلُّ الظروف القاسية من مرض وتعب وتشرد وحزن لكن لم أشعر بوحش المرارة التي أخبرتني عنها جدتي.

الآن، وبعد الثلاثة شهور أعترف بعلقم بشع اسمه "الحرب في الغربة"، فمنذ أن بدأت الحرب الدامية على غزة وقلبُ المغترب يتلوّع وجعًا من مرارة الفقد والتعب. ورغم كل ذلك، إلّا أنه لا يملك خيارًا إلا أن يكون قويًا، يعيش بكاءه وفقده في ليالي الشتاء الطويلة، ليستيقظَ صباحًا، يرتدي ثيابه، ويخرج إلى عمله ومهامه، ليدفعَ أيضًا ثمن تغيبه في اليومين السابقين، ثمنًا ليس بخسًا، فالحزن في بلاد الغربة مكلف جدًّا.

الصحفية هدى نعيم:حرب المغترب حربان

الصحافية هدى نعيم.jpg
الحرب هنا حربان، حربٌ وحشية سنَت ألسنتها بالطائرات والمدفعيات والدبابات، ليعيش أهلنا التشردَ والفقد والحرمان من أبسط مقومات الحياة، وحربٌ أخرى يخوضها المغترب وهو يمسك هاتفه يقرأ أخبار المجازر، يشاهد الصور، يبحثُ بين وجوه الناس عن أي ملامحَ لعائلته التي فقد بها الاتصال منذ أيام.

مشاعرٌ كثيرة لكن معظمها تفاصيل يخاف المغترب أن يبوح بها، ربما لأنه يؤجل هذا الحزن إلى ما بعد الحرب، وربما لأنه يخاف ألّا يفهم من حوله "قرصة قلبه" من هذه المشاعر. حاورتْ "بنفسج" عددًا من الصديقات المغتربات، سألتهنّ عن حرب المغترب، وعن أكثر اللحظات صعوبةً منذ أن بدأت الحرب على غزة.

الصحفية هدى نعيم، حبيبةُ أبيها كما عرفها كلُّ الأصدقاء، ابنة الطبيب فضل نعيم الذي لم يغادر المشفى منذ اندلاع الحرب، تروي لنا عن أكثر اللحظات التي مرتْ عليها وجعًا: "في الليلة التي حدثت بها مجزرة مستشفى المعمداني، كان والدي في تلك اللحظة داخل غرفة العمليات. وعندما قرأتُ الخبر ظننتُ أنهم يتحدثون عن الصاروخ الذي سقط في الصباح على المشفى، لكن عندما رأيتُ صور الأشلاء والشهداء في كل مكان، توقف الزمن أمامي، لم أردْ التفكير إلّا أن معجزةً ستنقذ حبيبي والدي، وأنه بخير، وسيبقى هذا البطل بخير، هكذا عهدته وهكذا يعرفه الجميع. انتظرتُ كثيرًا ويدي على قلبي ترتّل القرآن إلى أن جاءني اتصال: " والدُك بخير يا هدى".

كلمةٌ واحدة كانت كفيلة أن تمسح على قلب هدى، وتتمنى لو تركض ببساط سليمان لتصل إلى غزة، وتحتضن والدها قبل أن يدخل عمليةً أخرى لينقذ المصابين ويُسكن صوت أنينهم، غير أنّ ترسانة الحرب نالت من نعيم في أعز ما تملك، جدتها الثمانينية وبنات عمها طبيبتا الأسنان شيماء وسماح نعيم، اللواتي استشهدن في قصف صهيوني على البيت الذي نزحن إليه رفقة عائلتهما في النصرات.

 وفي هذا تقول نعيم: " كل لحظة في الحرب صعبة، ولا يمكن لأي شيء أن يعود كما كان، لكن الموقف الأصعب عندما رأيتُ عمي على الجزيرة يحمل حفيدته بين يديه! يا إليهي، زلزال هد كل الأمان الذي كنت أصبر نفسي به، فهذا عمي الذي نستمد منه القوة،  منهار ومصاب، وفاقد أعز ما يملك، بناته قرة عينه. وما زاد الموقف وجعًا، رسالة عمتي "أمي الحبيب شهيدة"! جدتي عمود البيت رحلت أيضًا. لقد كان ألم الصدمة والوجع أكبر من أن اكتبه في حروف".

د.ولاء البياري:" والدك شهيد" 

د.ولاء البياري.jpg

الدكتورة ولاء البياري التي كانت تنتظر لحظة انتهاء دراستها لتحزم حقيبتها رفقة ابنتها الصغيرة، لتعود إلى دفء عائلتها، تقول لي:"مكالمةٌ في صباح الحرب كانت كفيلةً أن تقلب حياتي، فصوتُ حشرجة أخي وهو يقول لي: "استشهد والدك". عند ذلك الخبر توقف الكون بالنسبة لي، أيعقل أن يستشهد أبي الحنون وهو ينتظر عودتي وقد حصلتُ على لقب الدكتورة؟ أيعقل أن يذهب دون أن أودعه الوداع الأخير وأقبله قبلة الشوق المؤجل؟ّ بهذه السرعة سُرق حلمي باللقاء القريب، واكتويتُ بنار الغربة من جديد".

المغتربة شيرين حمدان، والتي كانت تنتظر قدوم أمها لتكون بجانبها في فترة الولادة، تقول لي: "في اللحظة التي انقطع بها الاتصال عن غزة، مكثتُ في المستشفى من شدة الخوف والتعب، بقيتُ 6 أيام لا أعرف مصير عائلتي، وعندما سمعتُ صوت أمي للمرة الأولى بكيتُ بكاءً أبكى كل من حولي في غرفة المشفى. كل ما كنتُ أتمناه، أن تكون عائلتي بخير، أن يروا طفلي أمامهم، ويدللونه دلال الأحفاد، هل لهذا الحد أمنيتي صعبة في هذا العالم؟".

نهلة أبو جلهوم: صوت من أصوات الحرب

نهلة أبو جلهوم.jpg

المغتربة نهلة أبو جلهوم، والتي حوّلتْ عملها في هذه الحرب لتكون صوتًا لكل الغزيين، تكتب بلغات أجنبية، تقف كالجبل أمام الكاميرا، تروي الحكايات، تسندها بالحقائق والأدلة، وببحة صوتها تعلنها أمام العالم، آن لصوت الفلسطيني أن يعلو ويُسمع. تروي لي نهلة بعض التفاصيل التي عاشتها كمغتربة وأهلها تحت زخات الصواريخ: "في إحدى ليالي الحرب الضروس قرأتُ خبر قصف منزل أهل زوجي وكنا وقتها قد فقدنا الاتصال بهم، بقينا تلك الليلة ننتقل من فيديو لآخر لعلنا نعرف شيئًا، حتى رأيتُ في أحد الفيديوهات شارع بيتهم وقد اختفت معالمه، سمعنا صوت أحد الجيران يصرخ "إسعاف". قضينا تلك الليلة بكاءً وخوفًا عليهم. جاءنا في الصباح خبر أنهم استطاعوا الخروج من البيت. لقد نجوا بمعجزة لا تُصدّق".

المغتربة غادة القصاص، الكاتبة التي حوّلتْ حروف السعادة إلى رثاء لقائمة الأًصدقاء الطويلة تروي لي: "عشتُ مرارة الانتظار لأكثر من 7 ساعات، بعد أن رأيتُ فيديو على قناة الجزيرة لابن عمي وهو يصرخ أنهم قصفوا بيت عائلتي، حاولتُ الوصولَ لأي أحد يخبرني أي شيء عن عائلتي. بكيتُ بكاء القهر وأنا أرى بيتنا أصبح ركامًا، إلى أن عادت الاتصالات وأخبرني أخي أن عائلتي قد أُصيبت إصابات طفيفة".

نور عبده: نال أخي ما تمناه 

نور عبده.jpg

المغتربة نور عبده والتي أنجبتْ طفلها في أيام الحرب الأولى، كانت تنتظر أن تهدأ الحرب حتى تتمكن من الاتصال بشقيقها محمد القريب إلى قلبها، الخال المشاكس الذي انتظر رؤية ابن أخته بفارغ الصبر، لكن الحرب البشعة كان لها رأيٌّ آخر، تقول نور: "ليومين متتالين أحاول الاتصال بأخي محمد، كان القصف في منطقة بيته جنونيًا.

انتظرتُ كثيرًا حتى وصلني خبر استشهاد أخي، فكان أول ما قلته : الحمدلله أنه نال ما تمناه، الحمدلله أنه لم يُعتقل على يد الجنود النازيين. ارتقى توأم روحي عريسًا وسيمًا تليق به الجنة. بكيتُ أني لن أودعه وأشتمُ رائحة المسك المنبعثة من جسده، لكني فرحتُ بخاتمته الطيبة."

تفاصيل كثيرة عاشها المغترب الغزي في هذه الحرب، لعلّ أقساها لوعة الانتظار وداخله يصرخ:أيام وأسابيع أيُّها العالم الظالم، ومغتربٌ أصبح قلبه جمرات، لا يعرف أيستقبل التعازي في أهله، أم يجلس على أمل انتظار حضن ولقاء جديد؟