بنفسج

الحرب كممارسة اجتماعية: مراسم الزواج في مخيمات النزوح في غزة

الجمعة 12 يناير

يفترض المتأمل والمراقب للوضع في غزة منذ ما يقارب العقدين أن المدينة تحولت إلى مجتمع حربي، أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم "مجتمعات الحروب"، وهي تسمية تنطبق على المجتمعات التي ترزح تحت الحرب لمدة طويلة ولا يعرف أمدها؛ فتبرز سمة التكيف لدى الناس فيها، وهو ما يعني عملية تطورية طويلة المدى، تتطور فيها سمات تزيد من فرصة في البقاء في بيئة معينة ومكان ما، وهو كذلك التطوع مع البيئة ومحدداتها وعناصرها وظروفها للتمكن من الصمود والعيش والاستمرار، وهذا أيضًا يرتبط بعامل البقاء البيولوجي والتكاثر، وهي عملية طويلة المدى لا تحددها مدة معينة.

كظاهرة اجتماعية : مراسم الزواج في مخيمات النزوج

مراسم الأعراس في مدارس النزوح.jpg
إحدى الفتيات في مدرسة للنزوح في غزة، تتزيّن بالثوب الفلسطيني في مراسم زفافها 

وفي مقاربة الحالة الغزية، فإن عملية التكيف مع الحرب التي تجابهها غزة من عام 2007، التي تمتد طول سنوات الحصار والهجوم لعسكري، في سنوات مختلفة، تنطبق على محددات التكيف وسماته، ويظهر هذا جليًا أثناء الحروب العسكرية التي تتسم بالشدة والعنف؛ من قصف جوي ومدفعي وتشديد الحصار، وهو ما شهدته غزة في حروبها المتتالية: 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، وحرب طوفان الأقصى التي تستمر لشهرها الثالث.

 وهي التي  تؤرخ لأطول الحروب وأعتاها وأكثرها تدميرًا؛ إذ استشهد حتى الآن ما يقارب 23 ألف شهيد فضلًا عن المفقودين والأسرى والجرحى، وقد دُمرت فيها البنية التحتية في غزة، من شوارع ومساجد ومدارس وبيوت وأحياء بأكملها، وقد شهدت نزوح عشرات الآلاف من بيوتهم إلى جهة الجنوب.

هذه الظروف الصعبة تجعل من الصعوبة بمكان ممارسة الحياة الاجتماعية العادية والطبيعية؛ ولكن في حالة مجتمعات الحروب، التي تعيش أمدًا طويلا من الحرب، تتشكل حالة دفاعية موحدة بين الناس ذات أبعاد عقائدية أيدلوجية، واجتماعية وثقافية، وفطرية وبشرية بيولوجية. وإن ذلك يظهر في السلوك الاجتماعي لهذه الشعوب في الحرب: مجتمعات الحروب/ مجتمعات النزوح في غزة، التي تعايش الدمار والفقد والقتل اليومي، وقلة في الموارد الطبية والغذائية، وانعدام متطلبات الحياة بحدها الأدنى.

إن مراسم الزواج الأسياسية البسيطة تتم في مراكز الإيواء وسط مجتمع نازح لا يعرف أحدهم الآخر، والخاطب النازح لا يؤجل فرحه، بل يقيمه في وقته المحدد، دون بدلة بيضاء وجهاز العروس المعدّ، وصالة ومأدبة وغير ذلك، بل تطل العروس بثوب فلسطيني، إن توفر، أو ملابس الصلاة، وعريسها ببدلة عريس، إن توفرت، أو بدلة رياضية.

 ففيها تبرز مظاهر الفرح والحياة، كالزواج، على سبيل المثال، بوصفه ممارسة اجتماعية تحدث وسط الحرب، بشكل مستمر، ليس في الصالات والبيوت، ولا توجد فيها شروط الزواج المعتادة، بل إن مراسم الزواج الأسياسية البسيطة تتم في مراكز الإيواء وسط مجتمع نازح لا يعرف أحدهم الآخر، والخاطب النازح لا يؤجل فرحه، بل يقيمه في وقته المحدد، دون بدلة بيضاء وجهاز العروس المعدّ، وصالة ومأدبة وغير ذلك، بل تطل العروس بثوب فلسطيني، إن توفر، أو ملابس الصلاة، وعريسها ببدلة عريس، إن توفرت، أو بدلة رياضية.

 أما المحتفلون، فهم أهل النزوج الذين تعرفوا إلى بعضهم حديثًا، ومؤقتًا؛ لأن النزوح الذي بدأ منذ بدابة الحرب، يتنقل الناس فيه من مكان إلى آخر بحثًا عن أماكن آمنة، فتُبني صلات مختلفة وروابط اجتماعية مع كل من يعيش معهم. والسلوك الإنساني السوي  في ظروف كهذه يجعله يظهر مشاعر الترابط والتعاون والمؤازة مع المحيطين، فيتطوع ويساعد ويبادر حتى في أشد الظروف قسوة، وقد شهدنا مظاهر عديدة في الحرب تدلل هلى ذلك، مثل تقاسم البيوت والطعام والتنقيب عن الجرحى ومساعدة المسعفين والتطوع في كل المجالات.

الحرب: بين النظرية والممارسة

 أن اللاّفت في الموضوع، اختلاف السلوك البشري في مواجهة الخطر، من مجتمع إلى آخر، إذ إن البعض يتبع سلوكيات سلبية مغايرة للتوقّعات، أو الخط الطبيعي للدفاع عن النفس.
 
 بينما يتّبع البعض الآخر سلوكيات إيجابية تؤمن نجاته واستمراره حتى لو كان فيها تعارضًا مع الظروف السائدة في الحرب، كالزواج والفرح زمن الحرب/ وسطها.


لا شك أن الحرب تنتج حالة مركبة ومعقدة من الشعور بالألم والخوف؛ إذ يتعرض الناس للتهديد المستمر والمواجهة المحتملة للموت، ما يؤثر على سلوكهم، فيتخذون سلوكًا يحميهم وعائلاتهم وذويهم، كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى سلوك عدواني بسبب الحذر الشديد واحتمال فقدان السيطرة.

كما أن تأجج المشاعر واختلاطها وتعقيدها، غالبًا ما يتبعه ألم شديد وحزن عميق، ففقدان الأحباء والأصدقاء، و تدمير الممتلكات، والجروح البدنية و النفسية، جميعها تسبب ألمًا يصعب التعامل معه. ما يزيد من حجم التعاطف الاجتماعي والرغبة في مساعدة الآخرين وتأجيل الشعور بالإحباط واليأس في لحظات ما. ولكن، ما معنى الزواج والإصرار على مظاهر الفرح في وقت الحرب، وداخل مراكز الإيواء في غزة؟

عندما يكون المصاب واحدًا والعدو واحدًا، فإن ذلك يعزيز التضامن، ويتكاتف الناس ويساعدون بعضهم البعض في التغلب على الصعاب والتكيف معها. بل إن التعاون في تجاوز ظروف الحرب يساهم في إعادة بناء المجتمعات في مرحلة ما بعد الحرب. وهذا ينطبق على تشارك الأفراح؛ الزواج والرقص والغناء وتزيين غرفة العريسين، وممارسة فعل التصوير، وهو تثبيت الحدث قصديًا، ليصبح في تلك اللحظة فعلًا مقاومًا.

وللسلوك البشري أهميته تحت تأثير الصدمات، أو ردّة فعلهم الفطرية الإيجابي، كالصبر والتحمل وإظهار القوة، كما يفعل وائل الدحدوح، في كل الظروف التي يعايشها حتى الآن. إلاّ أن اللاّفت في الموضوع، اختلاف السلوك البشري في مواجهة الخطر، من مجتمع إلى آخر، إذ إن البعض يتبع سلوكيات سلبية مغايرة للتوقّعات، أو الخط الطبيعي للدفاع عن النفس، بينما يتّبع البعض الآخر سلوكيات إيجابية تؤمن نجاته واستمراره حتى لو كان فيها تعارضًا مع الظروف السائدة في الحرب، كالزواج والفرح زمن الحرب/ وسطها.

التعامل مع المخاطر: اختلاف ردات الفعل الإنسانية 

هنالك أدلة ثابتة على أن حالة الذهول أو الشلل الفكري والحركي تطغى عمومًا على الأشخاص غير المتأهبين لمواجهة الخطر، أو الذين يشعرون ضمنًا أن الكوارث تستثنيهم وتصيب سواهم.
 
بالمقابل، فقد ثبت أن الذين لا يعتبرون أنفسهم بمنأى عن الخطر، يتمكنون عمومًا من النجاة في أثناء الكوارث والحروب، أو يكونون أكثر قدرة على تحملها ومواجهتها. ويرد الباحثون سبب ذلك الى أن التحضير النفسي يرفع العقل إلى مستوى مجاراة إيقاع الحدث.

والسؤال المطروح: لماذا تختلف ردّات فعل الناس تجاه المخاطر، وكيف تتجلّى هذه الاختلافات في أثناء المحن؟حسب نتائج الأبحاث التي أجراها الباحثون على هذا الصعيد، هنالك أدلة ثابتة على أن حالة الذهول أو الشلل الفكري والحركي تطغى عمومًا على الأشخاص غير المتأهبين لمواجهة الخطر، أو الذين يشعرون ضمنًا أن الكوارث تستثنيهم وتصيب سواهم.

وهذا يعني أن أدمغة هؤلاء تكون غير متأهبة لاستقبال المعلومات الطارئة وإصدار الرد العقلاني للتكيف معها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفئة بالذات قد تتميز أحيانًا بسلوكيات التهور أو ردات الفعل الفطرية التي تطغى عليها سرعة الانفعال والصراخ ومحاولات الهروب غير المدروسة، الأمر الذي يتسبب بهلاك أفرادها.

بالمقابل، فقد ثبت أن الذين لا يعتبرون أنفسهم بمنأى عن الخطر، يتمكنون عمومًا من النجاة في أثناء الكوارث والحروب، أو يكونون أكثر قدرة على تحملها ومواجهتها. ويرد الباحثون سبب ذلك الى أن التحضير النفسي يرفع العقل إلى مستوى مجاراة إيقاع الحدث، وبالتالي التعامل مع مجرياته بالسرعة المطلوبة. وهو ما يحيلنا إلى مفهوم "الحياة اليومية بوصفها مقاومة"؛ ففي مجتمع غزة الذي يعيش حالة حرب منذ سنوات عديدة، بات يتكيف مع ظروفه، وتصبح كل ما يندرج من ممارسة أثناءها شكل من شكل المقاومة، وتتجلى في الزواج والرغبة في التكاثر والبقاء.

يرى العالم ويليم جيمس أن الآثار الإيجابية للحرب على المستوى الاجتماعي تتمثل في خلق شعور بالتكاتف والوحدة الوطنية في وجه التهديد الجماعي بتوحيدها لصفوف الناس معًا، حيث إن الانخراط في المعارك لا يقتصر على الجيش فقط، بل يشاركه أفراد المجتمع كافة، فضلًا عن أنها تجلب إحساسًا بالانضباط والامتثال واحترام الأهداف المشتركة، بجانب إلهام المواطنين التصرف بأخلاقية.

أما على المستوى الفردي، فيرى جيمس أن الحرب تبعث في نفوس الناس شعورًا بأنهم على قيد الحياة وعلى أهبة الاستعداد، كما أنها تمنحهم هدفًا ومعنى للتحرر والتخلص من العبودية والتحرر. تتيح الحرب أيضا الفرصة للتعبير عن القيم الإنسانية مثل الانضباط والشجاعة والتضحية بالذات، التي غالبًا ما تكون متخفية في قلب الحياة العادية.

السلوك الاجتماعي في الحرب

العروس في مراكز النزوح.jpg
إن الرغبة في الزواج والإنجاب والتكاثر منبعه، في بعض الأوقات، دينيّ، وهو شكل من أشكال الرد على الاحتلال

يجب فهم السلوكيات ومظاهرها وأشكالها وظروفها، لمحاولة فهم سلوك الشعوب أثناء الحروب، ومنها ظاهرة الزواج، وهي: العوامل الأيدلوجية العقائدية، والاجتماعية والثقافية، والبيولوجية الفطرية؛ إذ تؤدي هذه العوامل دورًا حاسمًا في تشكيل سلوك الشعوب خلال فترات الحرب .

العامل العقائدي والأيدلوجي: يعتبر العامل العقائدي والأيدلوجي في غزة عاملًا حاسمًا في دفع الناس للصمود والمقاومة والتكيف، ومنه اتخاذ قرار بعدم تأجيل الزواج، أو الإقبال على الزواج المبكر، بشكل عام، حتى لو كان في ظرف غير مناسب. والعامل الديني هو عامل مشترك موحد شامل يجتمع عليه معظم الغزيون في تشكيل نظرتهم للصمود والمقاومة وتقبل الموت، وفهم الحياة في هذا الموت. بل هو عامل أساسي يفسر سلوك الشعوب خلال فترات الحروب، فعندما تتعرض الأمة للتهديد من الخارج، فإن الوحدة والتكاتف، ينبعثان بقوة مما يؤثر علي سلوك الأفراد و المجتمعات، ويعزز ذلك على الرغبة في الدفاع عن الوطن والتضحية لأجله، وإعلاء كلمة الله، فتتعزز مشاعر موحدة بين الأفراد في مواجهة التحديات العسكرية .

كما أن الرغبة في الزواج والإنجاب والتكاثر منبعه، في بعض الأوقات، دينيّ، وهو شكل من أشكال الرد على الاحتلال، أنتم تقتلون ونحن نتكاثر، بل إننا نحاربكم بهذا الزواج وهذا الإنجاب والتوالد. وتعد غزة من أعلى المناطق خصوبة رغم عدم توافر الإمكانيات الاقتصادية والبيئية لذلك.

العامل الاجتماعي والثقافي

عروسان الحرب والنزوح.jpg
إن الزواج في زمن الحرب عامل يقوي الأواصر ويحمي الأفراد  ويزيد الترابط بين الأسر والعائلات

إن مجموعة التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد والمجموعات والتماسك الاجتماعي يؤثران بشكل كبير في القرارات والتصرفات خلال الحروب، بالإضافة إلى ذلك، تتخذ القيم و المعتقدات الثقافية دورًا في تشكيل سلوك الأفراد والمجتمعات أثناء فترات النزاع، لذا ففهم هذه العوامل يمكن أن يساعدنا في فهم تفاعلات الشعوب خلال الحروب .

ولا يمكننا فهم سلوك الشعوب خلال الحروب بدون النظر إلى التأثير الذي يمارسه التاريخ و التراث الثقافي علي ذلك السلوك؛ فالتجارب التاريخية والذاكرة الجماعية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل تصرفات الشعوب في زمن النزاعات، كما يحمل التراث الثقافي للشعوب قيمًا ومفاهيم تؤثر في دافعيتهم و تصرفاتهم خلال الحروب. وإن الزواج في زمن الحرب عامل يقوي الأواصر ويحمي الأفراد وعائلاتهم بزيادة التجمع البشري، وزيادة الترابط بين الأسر والعائلات، سواء في مجتمع حرب طيول المدى، أم نزوح مؤقت خلال الحرب.

العامل البيولوجي

أفراح الحرب.jpg
أثبتت معدلات المواليد والزواج والخصوبة في غزة أنها عامل للصمود والبقاء والاستمرار

لا تتنافر فطرة الإنسان في الزواج والتكاثر مع الحرب، بل العكس، فقد أثبتت معدلات المواليد والزواج والخصوبة في غزة أنها عامل للصمود والبقاء والاستمرار، فهي مجتمعات تتعرض للقتل المستمر، وأعداد الشهداء مهولة في وقت محدود جدًا، إذ لم تشهد أي من حروب العالم الحديث هذا العدد من الشهداء في أي منطقة من العالم، بل يمكن وصفها بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وأي محاولة للإبادة يقابلها رغبة في الصمود والبقاء، وتتمثل هذه الرغبة في الزواج. والإنسان بالأساس كائن بيولوجي يحافظ على نسله وبقائه، ويضع هذا الأمر في سلم أولوياته في أوقات الحرب، إذ إنها إيذان مستمر بتهديد حياته.

أي محاولة للإبادة يقابلها رغبة في الصمود والبقاء، وتتمثل هذه الرغبة في الزواج. 

وهذا لا ينطبق على الزواج في الحرب في غزة فقط، بل على تهريب النطف من السجون الإسرائيلية، للأسرى الذين تمتد محكومياتهم لعشرات السنوات وأكثر. الأسير لا تنتهي حياته في وقت بيولوجي يمضيه خلف القضبان، بل يتمرد على هذه الضبطية ويسرق وقتًا إضافيًا للإنجاب والتكاثر، يكون له ولد من نسله، يحمل اسمه واسم عائلته، فلا تتوقف الحياة في حد زماني ومكاني بالمعنى الفيزيائي. وفي هذا تحدٍ ومقاومة ومواجهة لشرطية الاحتلال التي تهدف لتوقيفك كإنسان بيولوجي يرغب في الحياة والإنجاب، وهذا يتنافى مع الفطرة البشرية الإنسانية ومقصد الخلق.