بنفسج

خيام بلا ألوان: وقائع تجربة شخصية

السبت 17 فبراير

هل تخيلت يومًا أن تعيش في خيمة لعشرات الأيام ودون أجل محدد لانقضاء المدة؟ هل بدا الأمر مثيرًا لك وخطرت في ذهنك الطبيعة العذراء والخيم الأرجوانية اللون المُحفزة لفضول التجربة؟ مهلاً... إنّها ليست رحلة تخييم! هذه خيام بلا لون، تصحو فيها على نهيق الحمير بدلاً من زقزقة العصافير. 

هي رحلة تهجير خرجت فيها من بيتي في الشجاعية شرق مدينة غزة قسرًا لا أحمل زاد الرحلة؛ بل بضع أوراق ثبوتية وغيار ملابس صيفي خطفتهم على عُجالة تحت وقع قصف الطائرات المُريع، وذلك بعد مرور أسبوع على السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ واشتعال فتيل الحرب في غزة. 

النزوح القسري تحت قصف الطائرات 

النزوح القسري من غزة إلى رفح.jpg

لا بد من أنّ أسئلة قفزت إلى مُخيلتك وتساءلت عن شكل الحياة داخل الخيمة خاصّة في شهري كانون أول وثانٍ، هل خطر لك البرد القارس ليلاً؟ أنا سأحدثك عن الحرّ الحارق نهارًا والثعابين والحراذين التي قد تصادفك في أيّ لحظة ومن كل مكان..
قبل هذه الأحداث كنتُ قد زرت ثلاث دول والعديد من مدن العالم خارج قطاع غزة.

نعم لقد غُصت في ثلج بورصة التركية وعانقت صقيع عمان في الأردن، وحرقني حرّ مكة المكرمة في السعودية. كما غامرت في كثير من التجارب والرحلات؛ وعلى الرغم من ذلك لم أجد تجربة تستحق أن تُروى _لفداحة وتضارب المشاعر والتفاصيل فيها_ أكثر من تجربة العيش في خيام الحرب.

في الحقيقة هي دفيئة زراعية أكثر من كونها خيمة تصلح للعيش الآدمي. الآن عرفت ما الظروف والتغييرات التي تطرأ على الخضروات والمزروعات داخل الدفيئات الزراعية حتى تنضج ويتغير شكلها ولونها بين ليلةٍ وضحاها! داخل هذه الدفيئة المصنوعة من الأخشاب والنايلون، التي لا تتجاوز (13) م² ويقطنها ٧ أفراد على الأقل، تبدأ الشمس بالشروق مُبكرًا، ومع كل شعاع ترتفع درجة حرارتك أكثر وتبدأ في التخفيف من ملابس ليلتك الباردة.

وفي لحظةٍ ما مع اقتراب ساعات الظهيرة حتمًا سيُصادفك ثعبانٍ يخرج من أيّ ركنٍ حولك، أو حرذون يقفز من أعلى الخيمة المجاورة إليك، وقد يدخل من الفتحة التي تشبه (الباب) بشكلٍ طبيعي فهو صاحب المكان وما أنت إلا ضيف في بيئته، وهنا تجد نفسك لا إراديًا بدأت في دوامة من القفز والصراخ لمواجهتك هذه الكائنات حافي القدمين، صفر اليدين، وربما للمرة الأولى في حياتك.

الحياة في الخيام: الحمام وقضاء الحاجة 

حياة النساء في مخيمات النزوح في غزة.jpg

بعد مرور ساعات داخل الدفيئة سيبدأ وجهك وقدماك بالانتفاخ من حرارة الطقس، وبعد أيام سيزداد لون بشرتك اسمرار درجتين أو ثلاث وربما أكثر، كل هذه الأمور قد تبدو شكليّة؛ لكنها في حقيقة الأمر تأتي مع ملوحة المياه مصاحبة لحكة واحمرار وحبوب وحساسية في كل الجسم، وهي أبسط الأمراض الجلدية البالغة الانتشار في قطاع غزة تحت وطأة سياط الحرب.

هل شعرت بالارتياب؟ مهلا عزيزي هناك تفاصيل كثيرة سقطت منّي في غمرة حديثي عن مشكلات البشرة الجلدية التي أميل للشكوى منها نظرًا لفطرتي الأنثوية؛ لكن حتما أنّك تساءلت: كيف هي تجربة (الحمام) أو (قضاء الحاجة والاستحمام) التي تعيشها الأنثى وغيرها من آلاف القاطنات في خيم هذه الحرب المسعورة، فيما يُقدَّر عدد النازحين من منازلهم بمليون و900 ألف من سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بحسب الأونروا.

في بداية الأمر بعدما تكون قضيت نحو يومين ممتنعًا عن الطعام والشراب في ظلّ هذا الظرف، ستشعر أنّك كائن قابل للانفجار، وتقرر الاستسلام وتلبية نداء الطبيعة، ولكن كيف؟سيحدث ذلك في حفرةٍ سورها الرجال ببعض الأقمشة من كافة الجهات في محاولة لستر الإنسان/ـة داخلها. في كل مرة ستصحب معك مرافقًا يقف عند المخرج لتنبيه أيّ قادم أنّ هناك آخر بالداخل، وتصحب شعور اقتحام المكان عليك في كل لحظة، ثم تؤدي تلك المهمة العاجلة خلال بضع دقائق وأنت مكتظ بشعور الخجل والارتياب والاشمئزاز من كل ما يحيطك ويمحق إنسانيتك، ومن المضحك المُبكي أنّك تخرج باكٍ كما دخلت، ثم يتكرر ذلك على الرغم من صيامك المفتوح.
 

الحياة في الخيام: الاستحمام وقضاء الحاجة 

الاستحمام وقضاء الحاجة في مخيمات النزوح.jpg

ماذا عن الاستحمام في وضعٍ أصبح فيه التساؤل المنطقي "كمّ مرّة استحممت في الحرب؟". ذاك الذي تطلبه كل خليّة في جسدك، وإذا لم تُخرِسي كأنثى هذا الجسد المتعطش لِما يُطفأ مشكلاته التي تأتي بشكلٍ طبيعي وأساسي مُرافقة للعيش في الخيام، ستضطرين لإجراء استحمام الطهارة والخنوع إليه قسرًا، وهنا معضلة أخرى كبيرة جدًا...

عزيزتي، سأخبرك أننا مع الأسف اضطررنا كإناث للاستحمام في غضون دقائق ونحن نرتدي ملابس الصلاة ودون التجرد الكامل من ملابسنا؛ رعبًا وحياءً من أداء هذه المهمة داخل خيمة النايلون ذات الباب القماشي، التي تنعدم فيها أدنى أساسيات الخصوصية الإنسانية، فتداخل الأصوات بين الداخل والخارج، وحركة النايلون المتواصلة مع هبوب الهواء في كل لحظة، وعدم وجود باب حقيقي يُعقد المَهمة ويُضخِم تأزمك النفسي؛ لكني لا أُخفيك بأنّ شعورًا فريدًا انتابنا بينما كنا نلهث لإتمام الأمر عندما لامست الماء أجسادنا المعتلة.

ربما تحلم/ـين بنومة هانئة بعد حمامٍ امتهن كرامتك كإنسان/ـة، لكن مع الأسف، ذلك لن يعدو عن كونه حلمًا؛ لأنّ للنوم والليل هنا حكاية مثيرة للغرابة قليلًا. وذلك كوننا لم ننم ليلةٍ واحدة هادئة، وهاك أصابع يدك نبدأ العدّ، صوت الزنانة (طائرات الاستطلاع) أولًا، أصوات القصف والقنابل الارتجاجية ثانيًا، المارة في الشوارع من البشر والحيوانات كالكلاب والحمير طبعًا؛ كيلا ننسى أننا ملقون في الشارع للحظةٍ واحدة. 

وفي الليالي العاصفة سيُضاف إلى تلك الأصوات، صوت الرياح والهواء المصحوب بحركة نايلون الخيمة عند تضاربهما الشديد معًا، ويقينك مع كل حركة أنك ستطير في الهواء مع خيمتك كورقة خريف ذابلة، وذهولك بعد هدوئها من ثباتك في مكانك وعدم اقتلاع الرياح لكل ما يحيط بك. وحسبك أنّك تموتُ بردًا وتكادُّ أصابعك تتصلب وأنت تحت الغطاء.

أضف إلى تلك الحالة، قهر أصوات الأفكار التي لا تهدأ والكوابيس التي تصحو ما أن يغفو جفنك، تارة بالزواحف هنا، وتارة ببيوتنا المقصوفة وأهلنا وصحبنا المفقودين هناك، فهل يمكنك تصور شعور أبٍ كبرت ابنته الوحيدة ذات العامين نحو أربعة شهور في الحرب فيما لم يسمع صوتها وهي تقول بابا للمرة الأولى، وقد وعيت عليه كصورة، في ظلّ قطع الاتصالات بين محافظات قطاع غزة.

الروتين الصباحي: البحث عن مقومات البقاء على قيد الحياة 

الحياة في خيم النزوح في رفح.jpg

هل انتهت مأساة العيش في خيام إلى هنا؟ مع الأسف لا وبالمطلق. فلم أحدثك بعد عن الأطفال الرضع والمرضى وصراع إيجاد الأدوية والحليب لهم، وعن دوامة البحث عن الحفاظات "البامبرز" وإذا وجدته فهو يُباع بأسعارٍ خيالية (20 شيكلا قبل الحرب/ 170 شيكلا بعد)! ولم أخبرك عن صغارٍ كبروا على "مفهوم الخيمة" بدلًا من البيت والأمن والدفء.

إنّ من أكثر الأشياء التي قد تُثير حزنك هنا، صغيرًا يطلّ من فتحة الخيمة قائلًا: "ماما جوعان". فإنّ للعجين وخبز الأرغفة على النار والرمال تتطاير حكاية أخرى، فيما قال أحدهم: "منذ سكننا الخيام لم نأكل شيئًا يخلو من الرمل".

وهل يمكنك تصوّر شعور الأمهات عندما يُصاب أحد صغارهن بنزلة معوية مثلاً؟ لن أتحدث عن مأساة التداوي والعلاج والذهاب للمشفى على عربة يجرها حمار في أفضل الأحوال، لكن دعنّي أخبرك عن ارتجافهم بردًا في ظلّ صعوبة توفير ملابس نظيفة لعدم إتاحتها في الأسواق، وصعوبة غسلها باستمرار في بيئةٍ رملية ومحدودة. 

كما يُصبح الروتين اليومي الصباحي هنا هو العجين والخبيز والغسيل وتوفير المياه والحطب، نعم لقد عدنا لعصورٍ ساحقة القِدم. إنّها حرب للبقاء على قيّد الحياة بكل معنى الكلمة.الحياة في الخيام لا تُعد بالأيام؛ هذه معاناة متجددة غير قابلة للتأقلم أو التكيُّف، وفي كل صباح تصحو مدهوشًا من قدرتك على احتمال ليلة إضافية جديدة في واقعٍ كهذا؛ لكنك ما تعبأ أن تكتئب لاضطرارك احتمال نهار آخر بكل ما يتضمنه من تفاصيل مثيرة للضحك حينًا وللبكاء أحيان كثيرة