بنفسج

رمضان في غزة: صائمون إلى ما بعد المغرب

الأربعاء 28 فبراير

ينتظر المسلمون رمضان ليمسح عن صدورهم متاعبها، ويأتي هذا الشهر الكريم كل عام في الوقت المناسب بعد أن تبلغ المتاعب أشدها، فتُطمْئِن روحانياته الحزينَ والقَلِق، وتهدئ أجواؤه المتعبين المكتئبين الغاضبين.أما هذا العام فيُقبل رمضان على غزة أثناء حربٍ أنهكت النفوسَ والبيوت والشوارع. أهل غزة كغيرهم من المسلمين يحتفون برمضان ويهللون لمجيئه، لكنهم هذه السنة يعجزون عن استقباله بالزينات والأناشيد والتحيات.

عندما كان الترحيب برمضان ممكنًا، كانت الطقوس الغزاوية تقتضي تحضير المأكولات مسبقًا ليتسنى لربات البيوت التفرغ للعبادة، للسحور بركته وللإفطار فرحته، خاصة مع تبادل سكبات الطعام بين الأهل والجيران.لا يستقبل الناس رمضان وحدَهم، الشوارع تتألقُ بزينتها وفوانيسها المضاءة، وأكلات رمضان الخاصة تملأ الأرصفة مستدعية الصغار ومحببة إياهم بصوم شهرهم الحبيب.

أما الآن، فيحل رمضان وسط ضائقة مادية ومعنوية، يجيء فلا يجد البيوت العامرة تنتظره، بل يصطدم بالخيمات المتناثرة والنازحين المجبرين على ترك منازلهم.آلاف المقاعد الفارغة على موائد رمضان، استشهد أصحابها أو أصيبوا أو تهجروا، فإن عاشت الأم سيُلفيها رمضان جالسة وسط كراسٍ خالية، تعدّ أطباق أبنائها المفضلة _إن استطاعت_ وتنتظر أن يعودَ الشهداء ليأكلوها ثم تحمد الله، فلهم في الجنة ما لذّ وطاب.

صائمون.. إلى ما بعد المغرب

الإبادة الجماعية في غزة.webp


 

إذا كان المسلمون في العالم أجمع سيفطرون مع أذان المغرب، فأهل غزة _وكثير من المسلمين في دول الحروب_ سيصومون ويستمرون في إمساكهم عن الطعام إلى ما بعد المغرب! ذاك ما تفعله قلة الموارد الغذائية بأهالينا الكرام، فتسلبهم تفردَ الشهر وفرحة كسر الصيام عند المغرب، لأنهم قلما يجدون ما يأكلونه.

الإفطار على التمر مقابل الإفطار على خبز بعلف الحيوانات وفي الوقت الذي نحقّق فيه سنة نبينا الكريم في الإفطار على التمر، قد يُحرم أهل غزة من ذلك خاصة أن خبزهم غدا يُعجَن بالعلف، ومواد غير المناسبة أو المُعَدة للاستهلاك البشري الآدميّ! أما قطط وحيوانات غزة، فتفطر وتقتات على أجساد شهدائنا الأبرار في مفارقةٍ مؤلمة ومعذِبة للقلب والروح.

رغم أن رمضان شهر خير وصدقات ويُسر، إلا أن طبيعةَ الأعباء والالتزامات فيه ستجعل منه شهرًا صعبًا على الشعوب التي تستقبله في حالة حرب، ولرمضان خصوصيته ومتطلباته وروتين يومِه الخاص، ولهذا الروتين والاختلاف عن بقية الأيام العادية لذته ومتعته، ومن المؤسف أن المسلمين المُحارَبين لن يتذوقوا هذه المتعة، بل سيتبقى لهم المتاعب فقط والركض هنا وهناك لتأمين ما يمكن تأمينه والوفاء بواجباتهم الرمضانية التي تحتاج قوةً وطاقةً وهدوءًا وصفاء يتعذر وجوده في غزة.

ومع هذا الجهاد العظيم والمصاعب الواضحة والخسارات العصيبة سيقفز في أذهاننا خاطر.. ترى هل تتساوى عشرات ركعات التراويح والتهجد والإحياء، مع مجاهدة أهالي غزة لأنفسهم ومحاولاتهم للإبقاء على إيمانهم واحتمالهم للفراق والفقد ومعاناتهم للرعب والمخاوف والأرق والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة؟

قد لا تغص المساجد بالمصلين، وقد لا نجد أبنية المساجد التي كانت تغص من أساسها! لكنّ اصطفافَهم أنّى تسنّى لهم وأداءهم للصلاة ما بين أشواط الموت والقصف قد تجعلهم _والله أعلم_ متفوقين في الأجر علينا ونحن نصلي تحت أسقف البيوت والجوامع.

ترى هل تتساوى عشرات ركعات التراويح والتهجد والإحياء، مع مجاهدة أهالي غزة لأنفسهم ومحاولاتهم للإبقاء على إيمانهم واحتمالهم للفراق والفقد ومعاناتهم للرعب والمخاوف والأرق والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة؟

قد لا يلحقون عشرات الختمات كما يفعل بعضنا، إلا أن التلاوة المتدبرة _التي يقرؤونها في خيمهم أو في المستشفيات وهم ينتظرون تعافي جرحاهم أو يداوون هؤلاء الجرحى بصفتهم أطباء أو أثناء خَبز ربة البيت لخُبز أهلِها بيدِها_ قد تفوق تلاواتنا كلها.

ولا نُفاضل هنا بين عباداتهم وعباداتنا، بل ولا نهدف للفصل بيننا وبينهم، فنحن جسد واحد، لكننا نحاول أن نعزيهم إن صح أن نُهديهم العزاء، ونطمئنهم بأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وبإذن الله فكلّ منا محاسب على ما يستطيعه، وهم على ثغرة مختلفة من العبادة الآن، فليست العبادات واحدة ولها أشكال عديدة من ضمنها ما يثبت عليه أهل غزة العظماء واختلاف الظروف التي تُهيّئ الإنسان للعبادة ستختلف معها عبادته نفسها لا شك.

لن نقع في فخ التشاؤم، يقول الواقع شيئًا ويقول أملُنا بالله أشياء وأشياء. فلعلّ النصر قريب ولعل الفتوحات تتكرر، فظفر غزوة بدر يذكرنا أن الغَلبة ليست للأقوى والأكثر عددًا، بل للمؤمن المخلص إذا شاء له ربه ذلك، وبهذا ندعو وعليه نُؤمّن، وإن لم يأتِ النصر أو تأخر فأشد ما نتمناه أن يصبّرنا الله على تأخره ويقوّي إيماننا ويقيننا كيلا نضعف في امتحانات الدنيا ونفوز فوزًا عظيمًا في الآخرة، نحن وكل من صبروا على الحروب في بلاد المسلمين والعرب، وما أكثرها!