بنفسج

ماذا لو كنتُ أمـــًا من غزة؟

الجمعة 01 مارس

كم مرة في اليوم، ينادي الطفل أمه قائلًا: "ماما أريد طعامًا، ماءً، أن ألعب، حمامًا، أنا مريض، أريد أن أذهب في رحلة، نفسي بهاي اللعبة". تجيب الأم طفلها بحب تارة، متأففة تارة أخرى، غير أنها تفعل، ولكن ماذا إذا كنت أمًا في غزة، كيف ستجيبين؟ ونحن نعلم جميعًا أن طلب الابن غال جدًا، خصوصًا في زمن يعز فيه الرخاء، والمال، والأمن، كيف تحتمل الأم أن يطلب منها ابنها أو ابنتها طلبًا لا تستطيع إيجابه، لا بل وأقل منه، كسرة خبز، مكان بلا صوت زنانة، أن ينام دون أن ينهار الحائط، دون أن يحرق جسده، وإذا مات، أن يموت معروفًا اسمه، تحتضن جسده ويُصلى عليه، ويدفن في مكان تزوره.

ماذا لو كنتِ "أمًا" في غزة؟

ماما أنا جوعان.jpg

نداء أول "ماما أنا جوعان": نداءات الجوع تعتاد عليها الأمهات، تلبيها بحب في مطبخها، لكن في غزة، لا إجابة لدى الأم، فقد خبزت حتى الأعلاف، وصرخت في وجه الكاميرات، حتى تمنت الموت بقصف الطائرات، عن الموت جوعًا. بل انه لن الترف توفير الفاكهة المفضلة مثلًا، فماذا لو كان أقل من ذلك، الخبز مثلًا! الامهات لا يستطعن تلبية الخبز، والأطعمة الأساسية لعدم توافر الطحين، ويستعضن عنها بالأعلاف.

يقول أحمد الطفل الصغير: "أمعائي تتقطع ويبدأ لدي مغص شديد عندما أتناول خبز العلف، وأصاب بإسهال شديد وإعياء، ولكنني لا أستطيع الشكوى لأمي، كم ستحتمل أمي بعد؟". وما يشبه كلام أحمد ما قالته ليان: "أمعائي تزقزق، تصدر أصواتًا مسموعة، فأتلوى تحت فراشي حتى لا تسمع أمي فتبكي، أجل، إن أمي تبكي قهرًا علينا، قررت وإخوتي أن لا نشكوا لها جوعًا أو بردًا، أو حتى أمنية نتمناها. مبيرح أجا عبالي أنا وسالي أختي بيتزا، والله اشتهينا ريحتها، زماااان، صرنا نتخيل طعمها وسخونتها والجبنة إلي عليها، بس طبعًا بصوت واطي عشان ما تسمع أمي".

تقول أم ريان: "أعلم عندما يجوع أولادي الكبار مع أنهم لا يقولون، قبل الحرب كنت أصنع 3 وجبات، وسناكات متفرقة، كانوا يحبون أكل آخر الليل والنقرشات، ولكنهم في الحرب تغيروا، واعتادوا أيضًا، أشعر أنهم لا يريدون أن أحزن عليهم. أما الصغار فهم يشكون الجوع ويبكون فأقتطع لهم من طعام الكبار إن توفر، وهو طعام بالكاد يكفي لمرة واحدة، وهو بأقل الإمكانيات وليس صحيًا أو نظيفًا".

نداء ثاني: "ماما أنا مريض"

ماما أنا مريض.jpg

لا يحتاج أطفالنا لهذا النداء، فوجه طفلك المريض كفيل لأن توفر له كل العناية، أما في غزة، فالأوبئة القاتلة تنوعت، الكبد الوبائي، الجفاف والإسهال، الجدري والقمل والجرب، فكيف تستطيع الأم التعامل مع هذه الموجات المتتالية من الخوف جراء القصف ونوبات الهلع التي تصيب الأطفال، وكثيرًا ما شاهدنا الأطفال يرتجفون ويصابون بمرحلة ما بعد الصدمة. تقول سامية: "كل شيء يهون إلا أن أقف مكتوفة وابني يموت أمامي، يرتعد خوفًا من صوت الطائرات، خصوصًا بعد أن أصيب في القصف قبل شهرين من الآن، وقبل نزوحنا إلى هذه الخيمة، يصاب بنوبات هلع مستمرة، ويبكي دون توقف، وأعلم تمامًا أنه يحتاج أخصائيًا نفسيًا وهذا لا يتوافر الآن، أتمنى أن نخرج للعلاج قبل أن يتفاقم الأمر".

وكثيرًا ما سمعنا نداء الأطفال: "يما بوجع...يما فيه ألم...يما مش قادر أتحمل. فنبكي لبكائهم، ونتألم لألمهم، فكيف بالأمهات اللواتي ينقلن أطفالهن إلى المشافي وهن مصابات ونازفات، ويقفن جنبًا إلى جنب مع الأطباء ليخففن ألم أطفالهن، ويحضننهم و"كأن شيئًا لم يكن ولا يكون وأنا بجانبك يا طفلي، فلا تبك".

نداء ثالث: "ماما ما تروحي"

ماما ماتروحي.jpg

نترك أطفالنا لساعات معدودة في الحضانات، أو عند الأهل، لإنجاز مهمة أو الخروج في نزهه، تعود وقد أحضرت له هدية الترضية، أما في غزة، فذهاب الأم لا عودة فيه، بل فراق أبدي.

وكثيرًا ما شاهدنا أطفال يمسكون بأيدي أمهاتهم، يتشبثون حتى آخر لحظة وهن مستلقيات في المستشفيات، فإذا كفنت الأم حضنوا جسدها، وإذ أسجيت في القبر ناموا فوقه لإطالة الأمد الزمني في احتضانها، فلا حياة بعدها ولا أمان.

إن للحرب ويلات يخفف وجود الأم ثقلها وألمها، فهي التي تدافع وتحمي وتدفىء، وهي التي تهون كل هذا الألم الذي تأتي به الحرب.

نهاية: الأم .. لا تموت على عجل

الأم لا تموت على عجل.jpg

تموت أولى في فقد الولد، وتموت ثانية حزنًا عليه حين تتركه وترحل، وثالثة حين تكون عاجزة أن تكون الأم التي تريد. تحمل على نفسها كل الأعباء دون شكوى، ولكنها لن تحتمل طفلها جوعانًا، أو بردانًا، أو مكشوفًا، أو مريضًا، بل يكون موته أو موتها أهون عليها.